4:31 مساءً / 13 يوليو، 2025
آخر الاخبار

العطاء الموجع… حين تُزهِر الأرواح من دموعها ، بقلم: رانية مرجية

رانية مرجية
رانية مرجية

العطاء الموجع… حين تُزهِر الأرواح من دموعها ، بقلم: رانية مرجية

في زوايا الحياة التي لا تلمع، في الأزقة المنسيّة من قلوب البشر، يولد نوع نادر من العطاء… عطاء لا يحمل هالة الأبطال، ولا تُزَفُّ له الكلمات، ولا يُرفع لأجله الستار. إنه العطاء الموجع، ذاك الذي ينهض من أعماق الألم، من قلبٍ جُبل على الخسارات، من يدٍ ترتعش لكنها لا تزال تمتدّ نحو الآخرين، رغم النزيف.

العطاء الموجع ليس حكاية وردية تُروى في الأمسيات ولا شعارًا على الجدران. إنه حالة وجودية، فعل حبٍ متوحّد مع الحزن، اختيارٌ واعٍ أن نُضيء شمعة في روح غيرنا ونحن نحترق. هو تضحية ليست استعراضية، بل خفيّة، خجولة، ترتدي ثوب التواضع، وتسير حافية في طرقات الحياة.

إنه عطاء الأمّ التي تجوّع لتُشبع أبناءها، ولا تنام لترعى بكاءهم. عطاء المُربّي الذي يزرع في عقول الأجيال نورًا وهو مغمور بالعتمة. عطاء المناضل الذي يرفع قضيته على كتفيه وهو محاطٌ بالخذلان. عطاء المحبّ الذي يسامح مرة ومرتين ومئة، لا لأنه ضعيف، بل لأنه يُحب بصمتٍ يُبكي الملائكة.

العطاء الموجع لا ينبع من فائض المال ولا من رفاه القلب، بل من القلة، من الشقوق التي لم تُرمَّم، من تعبٍ لم يُفهم، ومن صبرٍ اختُبر مرارًا. هو نوعٌ من الصلاة المتجسّدة، صلاة من نوع آخر، تتسلل إلى الوجود لا من شفاهنا بل من جراحنا.

دينياً، هو أعلى مراتب التقوى والمحبة، ذاك الذي تحدّث عنه السيد المسيح حين قال: “ليس حبٌ أعظم من هذا: أن يبذل الإنسان نفسه لأجل أحبائه”. وهل من بَذلٍ أقسى من أن تهبَ قلبك كلّه وأنت تعلم أنه قد لا يُحتضن؟ أن تعطي دون أن تتوقع شيئاً؟ ذاك هو جوهر الإيمان، أن نمنح بوعي، بإرادة، لا من ضعف بل من قوة تُمتحن في الظلال.

في البعد النفسي، العطاء الموجع يطرح معضلة: كيف نعطي من قلوبٍ مثقلة؟ كيف نستمر في الإضاءة ونحن نغرق في العتمة؟ والإجابة ليست سهلة، لكنها تكمن في المعنى. حين يجد الإنسان أن ألمه ليس بلا فائدة، أن انكساره يُثمر، يصبح عطاؤه طريقًا للخلاص. ذلك النوع من العطاء لا يستهلكه فقط، بل يخلقه من جديد، يعرّيه ويعيد تشكيله على هيئة إنسانٍ أكثر نقاءً، أكثر حكمة، وأكثر حضورًا في الوجود.

فلسفياً، إنه تمرد على منطق المصلحة. هو تكسير لجدار الذات المغلقة، وهو القفز الحر في فضاء الآخر. حين نُعطي بهذا العمق، نكسر قيود “الأنا” ونتحدّ مع العالم من خلال “نحن”. يصبح الإنسانُ، في لحظة العطاء تلك، جزءًا من نهر الحياة الكبير، من الطهارة الكونية التي لا تحتاج لتبرير.

نحن في عصرٍ يشجّع على الأخذ، على الاحتفاظ، على التملّك. يُقال لنا إننا نستحق، وإننا يجب أن نحصل على كل شيء، ولو على حساب أرواح الآخرين. لكن ماذا لو كان الخلاص الحقيقي، السلام العميق، لا يُولد من الأخذ بل من العطاء؟ من التخلّي؟ من هذا العطاء المؤلم الذي يجعلنا أكثر بشرية؟

العطاء الموجع هو صوتُ الضمير حين يصمت العالم، وهو حضنُ الأم حين تنهار الأمان، وهو يدُ الغريب التي تمتدّ بلا مصلحة، وابتسامة من فقد كل شيء لكنه لا يزال يبتسم للسماء.

إننا لا نولد عظماء… بل نصبح كذلك حين نختار العطاء في لحظة الانهيار، حين نحبّ رغم الألم، ونعطي رغم الخوف، ونغفر رغم الطعنات.

فلْنُكرم الذين يعطون من أعماق وجعهم، لأنهم وحدهم يُبقيهم الله في الذاكرة. لأنهم، من دون أن يعرفوا، يصنعون المعجزات في خفاء قلوبهم.

شاهد أيضاً

يوم طبي مجاني لمستشفى الراعي بالتعاون مع جمعية نور اليقين في صيدا

يوم طبي مجاني لمستشفى الراعي بالتعاون مع جمعية نور اليقين في صيدا

شفا – نظّم مستشفى الراعي في صيدا يوماً طبياً مجانياً بالتعاون مع جمعية نور اليقين …