
مكافحة التصحر على الطريقة الصينية…تحويل الرمال إلى ذهب ، بقلم : ليانغ سوو لي
في العالم العربي، لا تُعدّ الصحراء مجرد مشهد طبيعي، بل تمثل تحديًا تنمويًا مستمرًا. فمن مبادرة “الشرق الأوسط الأخضر” في السعودية إلى تجارب الواحات الاصطناعية في الإمارات، يظل تحقيق التوازن بين استعادة النظم البيئية وتحقيق النمو الاقتصادي في بيئات جافة وقاسية، من أبرز التحديات التي تواجهها السياسات التنموية في المنطقة. وفي منطقة شينجيانغ، وتحديدًا في صحراء “تاكلامكان”، يجري تنفيذ تحول بيئي شامل، يقدّم نموذجًا واقعيًا ومستدامًا لمكافحة التصحر يمكن للعالم بأسره أن يستلهم منه.
تُعدّ “تاكلامكان” ثاني أكبر صحراء رملية متحركة في العالم، إذ تزيد مساحتها عن 330 ألف كيلومتر مربع، وكانت تُعرف محليًا بـ”بحر الموت”. غير أن الصين، وعلى مدى عقود، عملت على تنفيذ مشاريع ضخمة لمكافحة التصحر، أبرزها مشروع “الحزام الأخضر في الشمال الغربي”، حيث أُقيم حزام نباتي بطول 3,046 كيلومترًا حول أطراف الصحراء. وفي عام 2024، أُغلق آخر فراغ من الحزام بطول 285 كيلومترًا، ليكتمل بذلك أطول حزام بيئي يحيط بصحراء في العالم، في إنجاز يعزز الأمن البيئي ويفتح آفاقًا جديدة للتنمية الاقتصادية.
لكن النجاح في مكافحة التصحر لا يعتمد على المشاريع الهندسية وحدها، بل يتطلب منظومة مؤسسية فعالة لتحفيز مشاركة السكان المحليين. فطبّقت سلطات المنطقة نظام “تخصيص الحقوق للأسر والعوائد للأفراد”، بحيث تم توزيع الأراضي الصحراوية الحكومية على المزارعين ليتولوا إدارتها واستثمارها. وبهذا، تحولت مكافحة التصحر من مشروع حكومي إلى مسؤولية مجتمعية مشتركة.
وفي محافظة يوتيان على سبيل المثال، شاركت أكثر من 8,277 أسرة في استصلاح الأراضي الرملية، وحقق العديد من المزارعين زيادة كبيرة في الدخل من خلال زراعة نباتات طبية نادرة مثل “سيستانش”.
كما أصدرت الحكومة الإقليمية مجموعة سياسات تعرف باسم “تسعة بنود لمكافحة التصحر”، تشمل مجالات التمويل، واستخدام المياه للري، وحقوق استخدام الأراضي، وتخطيط مشاريع الطاقة الشمسية، مما وفر بيئة قانونية ودعمًا مؤسسيًا قويا للمزارعين والشركات.
ورغم أهمية الأسس المؤسسية، فإن العامل الأهم في نجاح التجربة الصينية يكمن في الدمج العميق بين الإدارة البيئية والتنمية الاقتصادية. ففي محافظة يوتيان، تحوّلت زراعة الورود المقاومة للجفاف إلى رمز لهذه المقاربة، حيث تُستخدم هذه النباتات في تثبيت التربة، إلى جانب إدخالها في صناعات مثل استخلاص الزيوت العطرية وتحضير شاي الأزهار، ما أسهم في بناء سلسلة إنتاج متكاملة. أما النموذج الأكثر ابتكارًا، فهو ما يُعرف بـ”الزراعة بين صفوف الأشجار”، حيث تُزرع أعشاب طبية مثل الريمانيا والقلنسوة الصينية بين النباتات المثبتة للرمال، ما يخلق نظامًا بيئيًا متوازنًا يجمع بين المحاصيل القصيرة الأجل والغابات الوقائية الطويلة الأجل. وقد أدى هذا النموذج إلى زيادة كفاءة استغلال الأراضي، وتوسيع سلسلة القيمة الخاصة بالأعشاب الطبية. وفي يوتيان وحدها، تأسست أكثر من 40 جمعية تعاونية تعمل في زراعة السيستانش والورود، إلى جانب 3 شركات رائدة، وفّرت أكثر من 10,000 فرصة عمل، وهو ما يبرهن على نجاح الدمج بين استعادة البيئة وتحقيق التنمية الاقتصادية.
ولا يمكن تجاهل الدور الحاسم للابتكار التكنولوجي في هذا التحول النوعي. ففي محافظتي شايا وروتشيانغ، تم تثبيت مساحات واسعة من الألواح الشمسية فوق الأراضي الصحراوية. تنتج هذه الألواح الكهرباء من الأعلى، وتُستغل المساحات السفلية للزراعة، بينما تُخصص المساحات الجانبية لتربية الإبل، ما يحقق تكاملًا بين الطاقة والزراعة والبيئة. كما تُستخدم الكهرباء الناتجة في تشغيل أنظمة الري بالتنقيط، مما يُحسن كفاءة استخدام المياه. ويجري اعتماد تقنيات التحلية بالأغشية والتحليل الكهربائي لمعالجة المياه المالحة الجوفية، مما يمثل اختراقًا في مجال الري الصحراوي. إضافة إلى ذلك، ساعد استخدام الروبوتات الذكية والآلات في زراعة شبكات التثبيت النباتي على رفع كفاءة مكافحة التصحر بأكثر من خمسة أضعاف، لتصبح التكنولوجيا “شبكة دفاع” في وجه التصحر.
تجربة “تاكلامكان” لم تُغير المشهد البيئي لغرب الصين فقط، بل قدمت للعالم “النموذج الصيني” في إدارة الأراضي الصحراوية. وبالنسبة لدول مثل السعودية والإمارات ومصر، التي تواجه تحديات التصحر، تقدم هذه التجربة نموذجًا واضحًا وملهمًا يقوم على ثلاثة محاور: الجمع بين مكافحة التصحر والتنمية الصناعية، والدمج بين الابتكار التكنولوجي والمشاركة الشعبية، والتوازن بين الحوافز الحكومية والإدارة البيئية المستدامة.
إنها ليست مجرد تجربة بيئية ناجحة، بل تحوّل في مفهوم التنمية ذاته، يبدد الافتراض القديم بأن حماية البيئة تعارض النمو الاقتصادي.
فعندما تصبح مكافحة التصحر وسيلة لزيادة الدخل وتحسين سبل العيش، تنشأ تلقائيًا دافعية ذاتية نحو التنمية الخضراء. وهكذا، فإن هذه الأرض التي كانت سابقًا أرضًا قاحلة، باتت اليوم تكتب فصلًا جديدًا من التعايش بين الإنسان والطبيعة. وتُظهر تجربة “تاكلامكان” أن مكافحة التصحر يمكن أن تحقق توازنًا متناغمًا بين الأهداف البيئية والاقتصادية والاجتماعية، مما يجعلها مصدر إلهام لمسارات التنمية المستدامة عالميًا.
- – ليانغ سوو لي – إعلامية صينية – الصين .
إقرأ مزيداً من الأخبار حول الصين … إضغط هنا للمتابعة والقراءة