
مرايا الحكم: حين نحاكم الآخرين نكتب مصيرنا بأيدينا بقلم: رانية مرجية
في عمق كل روح بشرية، توجد محكمة صامتة، تجلس فيها النفس على المنصة وتحاكم الآخرين في الخفاء. نصدر الأحكام على من نراهم “أقل”، “مذنبين”، “مختلفين”، دون أن ننتبه أننا نحن المتهمون القادمون.
كأن الحكمة الإلهية تهمس في داخلنا: “لا تُدينوا لكي لا تُدانوا” (إنجيل متى 7: 1) – كلمات خالدة، ليست مجرد وصية بل قانون روحي ونفسي واجتماعي يتردد صداه في كل الأديان.
لماذا ندين؟
من منظورٍ نفسي، تمثل الإدانة آلية دفاعية نحاول بها إسقاط مشاعرنا المكبوتة على الآخرين. نحكم على من حولنا لنخفي صراعاتنا الداخلية. كما قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام:
“من نظر في عيب نفسه شُغل عن عيب غيره، ومن رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته، ومن سلّ سيف البغي قُتل به.”
ندين لأننا نرفض مواجهة هشاشتنا. نحكم على الضعيف كي لا نعترف بضعفنا. نحاكم المختلف لأننا نخشى الاختلاف فينا.
الإدانة في ميزان الدين
في الإسلام، تأتي آيات عديدة تحذّر من الحكم على الآخرين، ومنها قول الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾ (الحجرات: 12)
تتجلى هذه الآية كدرع أخلاقي يحمي الإنسان من الوقوع في فخ إصدار الأحكام. الظن، التجسس، والغيبة ليست سوى صور مختلفة من الإدانة المغلّفة.
في المسيحية، يُذَكّرنا بولس الرسول أيضًا:
“فإذًا أنت بلا عذر أيها الإنسان، كل من يدين، لأنك في ما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها” (رومية 2: 1)
وفي كلمات الحلاج – الصوفي المتصوف الشهيد:
“ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله فيه” – فكيف يمكن أن تدين مخلوقًا يسكنه الله، أو تتعالى على من يحمل من النور ما تحمله أنت؟
المجتمع: محكمة مفتوحة
في عالم تسوده المقارنات والنماذج المثالية الزائفة، تتحول الإدانة إلى عادة جماعية. نحن نعيش في ثقافة تخشى الاختلاف، فتصنع من الأحكام جدرانًا. نحكم على المرأة إذا لبست، ونحكم عليها إذا تحجّبت. نحاكم الفقير، ونزدري الثري، دون أن نسأل: من نحن حتى نصدر هذه الأحكام؟
الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قال:
“من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة” (رواه مسلم)
والستر نقيض الإدانة. الساتر يرحم، والقاضي يعاقب، فأيّ الطريقين نسلك؟
هل نعرف الحقيقة أصلًا؟
كل إنسان قصة لا نعرف فصولها. نحكم عليه من لقطة عابرة، من كلمة، من موقف مجتزأ، وننسى أن الحقيقة أعمق مما نراه. كم من مذنب في نظرنا كان بريئًا؟ وكم من “قديس” كان يخفي ظلامًا داخليًا؟
الرب وحده يرى القلوب، أما نحن فلا نرى سوى الوجوه.
النهاية: لنُنزِل الأحكام من قلوبنا
“لا تُدينوا لكي لا تُدانوا” ليست فقط تحذيرًا سماويًا، بل نداء للسلام الداخلي. عندما نتوقف عن إدانة الآخرين، نصغي أخيرًا إلى أنفسنا. حين نُمارس الرحمة، نُشفى. حين نفهم الآخر، نفهم ضعفنا. كما قال يسوع للمرأة الزانية التي كادت تُرجَم:
“من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها أولًا بحجر” (يوحنا 8: 7)
فلنكن نحن من يُلقي الحجر جانبًا. لنكفّ عن بناء محاكم خفية داخل أرواحنا. لنجعل من قلوبنا أماكن سماح لا ساحات حرب.
فكل حكم تُصدره، ستدور دائرته، وربما يعود إليك يومًا في وقت ضعفٍ لم تتخيله.