
“حين تخنقنا الابتسامة: المجاملة القاتلة للإبداع” ، بقلم: رانية مرجية
في عالمٍ يعجّ بالمجاملات، تُرفع الرايات البيضاء في كل حديث، وتُوزّع كلمات المديح المجاني كما تُوزّع الحلوى في الأعياد. لكن، من قال إن كل حلوى نافعة؟ ومن قال إن كل ابتسامة صادقة؟ المجاملة ليست دائمًا لغة لطف، بل كثيرًا ما تكون سكينًا مغلفة بالحرير، تذبح الحقيقة وتغتال الإبداع في وضح النهار.
المجاملة المفرطة ليست فقط شكلاً من أشكال التهرب من المواجهة، بل هي أيضاً آلية دفاعية يتبناها مجتمع يخاف النقد ويهاب التغيير. وفي ظل هذا الخوف، تُكبت الأفكار الجريئة، وتُوأد المشاريع الطموحة، ويُقصى كل من يحاول أن يخرق المألوف أو يتحدى السائد. نصبح أسرى لذوق الجماعة، رهائن لما “يروق للآخرين”، فنكتب كما يشاؤون، ونرسم كما يتوقعون، ونفكر كما يرغبون، لا كما نشعر ونؤمن ونحلم.
لا يولد الإبداع في حضن الراحة، بل في رحم الشك والمواجهة والصدق القاسي. فحين نقول للمبدع: “أحسنت” وهو لم يحسن، نخدعه مرتين، مرة عندما نوهمه بأنه بلغ القمة، ومرة عندما نمنعه من المحاولة مرة أخرى. نحن بذلك لا نمنحه الدعم، بل نمنحه الوهم. والمبدع لا يحتاج إلى مرآة تعكس له ما يريد، بل إلى مرآة تكشف له ما يجهل.
نعم، لا بد من المساندة النفسية والتشجيع، لكن ذلك لا يتحقق بالمجاملات السطحية، بل بالنقد الصادق البنّاء، الذي يرى نقاط القوة ويعترف بنقاط الضعف. النقد الحقيقي هو حبّ في أرقى تجلياته، هو احترام لذكاء الآخر وقدرته على التطور، لا استصغار له عبر تمليقه.
على الصعيد النفسي، تعلّمنا المجاملات ألا نثق بحدسنا، وأن نُشكّك في مشاعرنا، لأنّ المحيط يروّج للرضا المصطنع بدلاً من الاستياء المشروع. وتدريجيًا، نبدأ بخيانة أنفسنا. نكتب ما لا نريد، نرسم ما لا نشعر، ونعيش حياة فنية مزيفة لا تمتّ لنبض الروح بصلة. هكذا، يتحوّل الإبداع إلى طقس اجتماعي فارغ من المعنى، ونخسر ما هو حقيقي فينا.
أليس من المأساة أن تموت القصائد في أفواه الشعراء لأن أحدهم قال لهم إنّ كل ما يكتبونه “جميل جدًا”؟
أليس من القسوة أن نخدع رسامًا شابًا، فقط كي لا نجرح مشاعره، فنقطع عليه الطريق نحو أن يُصبح عظيمًا؟
أليست المجاملة في غير موضعها نوعًا من الخيانة الصامتة؟ خيانة للموهبة، وللحقيقة، وللحياة ذاتها.
فلنكن أكثر صدقًا.
ولنُعد الاعتبار للكلمة الصريحة، للرأي الحر، للنقد البنّاء، وللتعبير الجريء.
لنعِ أنّ الإبداع لا يحتاج إلى التهليل، بل إلى الحِوار. لا يحتاج إلى التصفيق، بل إلى التحدي.
ففي النهاية، لا يولد الضوء من المدائح، بل من الصراع.
ولا تنمو الأجنحة بالتصفيق، بل بالسقوط والنهوض.