
سحر خليفة تُضيء “مصابيح أورشليم”: رواية تكتب الوجع المقدسي بأنفاس نسوية ، بقلم: رانية مرجية
من القدس تبدأ الرواية، ومنها تنبع الحكاية، وفيها تشتعل المصابيح التي تضيء ما بعد أوسلو، تلك المرحلة الرمادية التي تخلّت فيها السياسة عن شرفها، وتخلّت العواصم العربية عن المدينة التي لا تعرف سوى الكبرياء.
رواية “مصابيح أورشليم” للروائية الفلسطينية سحر خليفة ليست رواية تقليدية، بل هي عمل إبداعي يُكتب على جدار القلب، ويُقرأ بعينين دامعتين، لا لضعف، بل لفرط الإدراك. إنها أكثر من نص سردي، إنها فعل مقاومة لغوية، وصيحة نسوية وطنية، ومحاولة عنيدة لإنقاذ الذاكرة من الغرق في بحر التنازلات.
المرأة كمدينة، والمدينة كامرأة
في كل سطر من الرواية، تنعكس صورة القدس في عيون النساء اللواتي يسرن بثقل الحصار، لا فقط حصار الاحتلال، بل الحصار الذكوري، الديني، العائلي، والوطني المزيّف.
سحر خليفة لا تفصل بين وجع المرأة ووجع المدينة، بل تمزجهما حتى لا يعود بالإمكان التمييز بين الجرحين.
فالقدس التي تُسرق من أبنائها، تُشبه تمامًا المرأة التي تُنتزع منها إرادتها، باسم الدين حينًا، وباسم الوطن حينًا آخر.
نقرأ عن النساء المقدسيات وهنّ يفتحن نوافذ الحارات القديمة، لا لتهوية البيت فقط، بل لتهوية الحقيقة المخنوقة، ولتمرير نسمة مقاومة في الأزقة التي تعبت من الشعارات الفارغة.
القدس بعد أوسلو: وطن بلا ظلال
الرواية لا تخجل من مواجهة المرحلة التي أعقبت اتفاق أوسلو، بل تفتح الجرح مباشرة:
ماذا يعني أن يُجزّأ الوطن؟
ماذا يعني أن تصبح المدينة المقدسة مسرحًا للمشاريع العقارية، والصفقات الأمنية، والتنسيق المقدس؟
سحر خليفة تتقدم ككاتبة حارسة، لا كمتفرجة. تسأل في عمق الرواية: هل بوسعنا أن نعيش في وطن لا يفتح لنا أبوابه، ولا نعترف فيه حتى على أنفسنا؟
في ظل انحسار الخطاب التحرّري وتراجع اليسار، تُقدّم الرواية قراءة نقدية للواقع الفلسطيني، حيث تبهت المفاهيم، وتتبدل الأدوار، ويغدو العدو في بعض الأحيان أكثر وضوحًا من “الشقيق” الذي يبيعك تحت الطاولة.
بين الأسطورة والواقع… سرد متوازن ببراعة
الرواية لا تقع في فخ التوثيق الجامد، ولا في فخ الرومانسية العاطفية. بل تمشي بينهما بتوازن يشبه رقصة غجرية على أسوار المدينة.
الرمز حاضر، ولكنّه ليس هروبًا من الواقع، بل نافذة تطلّ عليه من زاوية أخرى.
الأسطورة هنا لا تعني المبالغة، بل تعني البحث عن معنى أعمق للمدينة، لأهلها، لذاكرتها المعذبة، وللقوة الكامنة في ضعف النساء اللواتي لا يسقطن.
المصابيح ليست فقط إنارة مادية، بل رمز للوعي، للصمود، للاحتفاظ بالكرامة في أحلك اللحظات.
اللغة: سيف من نور
ما يميّز “مصابيح أورشليم” ليس فقط موضوعها، بل لغتها.
سحر خليفة تكتب ببلاغة امرأة تعرف مرارة الانكسار وحلاوة الكرامة.
لغتها ليست ترفًا أدبيًا، بل أداة حفر، تنبش التناقضات، تفضح الزيف، وتعرّي النفاق.
ليس هناك جملة زائدة، وليس هناك استعارة مجّانية. كل كلمة تؤدي مهمّة وجدانية وسياسية في آنٍ واحد.
نسوية لا تعادي الرجال، بل تحاكم النظام
رغم أن الرواية تتكئ على منظور نسوي واضح، إلا أنها لا تعادي الرجل، بل تحاكم البنى التي جعلت من المرأة ظلًّا تابعًا، ومن الرجل سيفًا فوق عنقها.
الرجال في الرواية ليسوا أعداء، بل ضحايا في كثير من الأحيان، تتوزع أدوارهم بين التائه والمُستلب والآبق.
لكن البطولة الحقيقية تظل نسائية، تلك التي تعيد للقدس ملامحها من خلال الصبر، الحلم، والوعي.
في الختام: الرواية بوصفها مقاومة
“مصابيح أورشليم” عمل يتجاوز الأدب. إنها وثيقة وجدانية وفكرية ونسوية تكتبها امرأة بمقام وطن.
سحر خليفة لا تكتفي بأن تسرد، بل تشعل شمعة في عتمة روحية يعيشها الفلسطيني، لا بسبب الاحتلال فقط، بل بسبب خيبات الداخل وخذلان المرحلة.
الرواية تهمس لنا:
“القدس ليست أرضًا نفاوض عليها، بل قلبًا لا يجوز نسيانه. والنساء فيها لا ينتظرن التحرير، بل يصنعنه.”
ولهذا، فإن كل من يقرأ “مصابيح أورشليم” لا يخرج منها كما دخل.
إنها رواية تغيّرك، توقظك، وتشعل داخلك سؤالاً لا ينطفئ: أين مصباحي أنا؟