4:33 مساءً / 3 يوليو، 2025
آخر الاخبار

إضاءات عميقة حول التحول نحو أنظمة الدفع الإلكتروني وأزمة تكدّس الشيكل ، بقلم : د. محمد زيد

إضاءات عميقة حول التحول نحو أنظمة الدفع الإلكتروني وأزمة تكدّس الشيكل ، بقلم : د. محمد زيد


تعتبر الكتلة النقدية المتراكمة من الشيكل في خزائن البنوك الفلسطينية جزءًا من السيولة المخصصة لتلبية طلبات السحب اليومية، وتسوية المعاملات التجارية مع الجانب الإسرائيلي. ورغم أهمية هذه السيولة، إلا أن تجاوزها للحدود الإستيعابية المعتادة يحوّلها إلى “أموال خاملة”، لا تسهم في تحريك عجلة الإقتصاد الفلسطيني. هذا الواقع يضع البنوك أمام أعباء تشغيلية متزايدة، ناجمة عن المتطلبات اللوجستية المرتبطة بحيازة النقد المادي، مثل تكاليف التأمين والتخزين، مما يُثقل كاهل الجهاز المصرفي دون مردود إنتاجي فعلي.


ويتجذّر سبب أزمة تكدّس الشيكل في البنوك الفلسطينية في القيود الإسرائيلية المشددة على نقل فائض الشيكل من البنوك الفلسطينية إلى البنوك المراسلة داخل إسرائيل من أجل تغذية مراكزها المالية، الأمر الذي يتيح لنظام المصرفي الفلسطيني من تسوية الإلتزامات المترتبة على الحصول على سله من السلع والخدمات الأساسية ” كهرباء، وقود”، وغيرها من الجانب الإسرائيلي. ومع انسداد هذا الشريان النقدي الحيوي، باتت البنوك تغرق في سيولة ورقية لا تجد لها مخرجًا، ما اضطرها لفرض سقوف صارمة على الإيداعات النقدية بعملة الشيكل، في محاولة يائسة لتقليص حجم الكتلة النقدية المتراكمة. وفي وجه هذا الإنفجار النقدي الوشيك، برزت الرقمنة كطوق نجاة. فالبنوك لم تعد تطالب بالتحول الإلكتروني كخيار، بل كضرورة ملحّة لتحييد شبح تكدّس الشيكل في خزائنها قبل أن يتحول إلى قنبلة اقتصادية موقوتة لا يُحمد عقباها.

وسط هذا المشهد النقدي المعقّد، يبرز تساؤل ملحّ يشغل أذهان المواطنين: هل يمكن لأنظمة الدفع الإلكتروني أن تُنهي أزمة الشيكل المتكدّس في البنوك الفلسطينية دون الحاجة لترحيله إلى مصدره الأصلي – البنوك الإسرائيلية؟. في سياق هذا التساؤل، لابد من الإشارة الى أنه بالرغم من الفوائد الملموسة لنظم الدفع الإلكترونية في تخفيض تراكم النقد الورقي وغيرها من الفوائد، إلا أن أزمة التكدّس في الحالة الفلسطينية تحمل أبعادًا معقدة تتجاوز قدرة الحلول الرقمية وحدها نظرًا لإنعدام قنوات التصريف الخارجية. لذا ، لا يوجد حل وحيد “أمثل” لتفكيك هذه الأزمة، بل لابد من مقاربة شمولية تجمع بين الأنظمة الرقمية، والسياسات النقدية، والترتيبات السيادية مع الجانب الإسرائيلي، من أجل كسر حلقة التكدّس المغلقة ووضع حد لهذه المعضلة الشائكة.

وانطلاقًا من منهجية الطرح المتوازن، واستنادًا الى مبدأ الموضوعية الذي يقتضي كشف الصورة من جميع محاورها، سيتم استعراض دور أنظمة الدفع الإلكتروني في كبح جماح النقد المتراكم من عملة الشيكل داخل البنوك الفلسطينية، كمدخل لتحليل شامل لمدى كفاءة هذه الأنظمة كخيار استراتيجي منفرد. وهنا تتجلى العقبة الأكبر: هل الإكتفاء بها كحل أوحد يُعد أداة سحرية وقرارًا مدروسًا؟ أم أن فعالية أي إصلاح مالي لتخفيف النقد الورقي المتكدّس يتطلب منظومة متكاملة من الإجراءات المتناغمة؟

تماشيًا مع ما سبق، تعتبر أنظمة الدفع الإلكتروني أداة فعالة في تقليص السحب النقدي من البنوك. فعندما يلجأ الأفراد والشركات إلى الدفع الرقمي مقابل السلع والخدمات، تتراجع الحاجة لحمل السيولة أو سحبها من أجهزة الصراف الآلي، ما يعني ببساطة أن الأموال تبقى داخل أروقة النظام المصرفي. بصورة أدق، عندما يدفع مواطن قيمة فاتورته إلكترونيًا لأحد المتاجر بإستخدام محفظته الإلكترونية أو تطبيق البنوك، فإن المال لا يغادر فعليًا خزائن البنك، بل ينتقل “رقميًا” من حسابه إلى حساب التاجر، ضمن ذات المنظومة المالية. بهذه الآلية، يبقى النقد الورقي المتكدّس يرقد في مكانه، دون أن يُسحب، مما يمنح البنوك فرصة ذهبية لتقليص احتياطياتها النقدية المعدّة للسحوبات التقليدية، وإعادة توظيف تلك السيولة المعطّلة في مجالات أكثر إنتاجية. وهنا يتحرر جزءًا كبيرًا من السيولة المجمّدة داخل الخزائن. بمعنى، بدلًا من أن يبقى الشيكل نقدًا خاملًا راكدًا في أدراج البنوك، يُعاد توجيهه نحو استخدامات أكثر إنتاجية. وبهذا، يتحول الشيكل المتكدس من عبء خامد إلى وقود مالي يُغذّي النشاط الاقتصادي والاستثماري. ولكن بالرغم من كل ذلك، فإن فائض الشيكل سوف يبقى في حالة دوران مستمرة داخل أسوار السوق الفلسطيني، لكنه لايغادرها. لذا، علينا أن نميز بين التحويلات الرقمية للأموال والتخلص الفعلي من فائض النقد الورقي، والذي لن يتم إلا بإخراجه وترحيله للجانب الإسرائيلي.

ولا جدال في أن أنظمة الدفع الإلكتروني تكتسب أهمية كبيرة حين يتم ربطها بشكل وثيق بمنظومات التسوية الخارجية مثل “نظام المقاصة”، إذ يُشكّل هذا الربط قناة قانونية منظمة لتصريف الأموال الرقمية بشكل سلسل، بعيدًا عن التكدّس النقدي داخل البنوك. فبدلًا من دخول الشيكل الورقي إلى السوق الفلسطيني، تبقى الأموال ضمن الإطار الرقمي داخل النظام المصرفي الإسرائيلي أو عبر قنوات تسوية مالية وسيطة، وهو ما يخفف الضغط عن خزائن البنوك الفلسطينية. علاوة على ذلك، عندما تصبح أنظمة الدفع الإلكتروني هي الوسيلة المقبولة أو الأكثر انتشارًا، فإن ذلك سوف يجبر الكثير من اللاعبين خارج أسوار السوق الرسمي على تنظيم ودمج معاملاتهم التجارية في إطار النظام المصرفي، بمعنى دمج الإقتصاد غير الرسمي تدريجيًا في المنظومة الرسمية. وبهذا، تبدأ ملامح اقتصاد أكثر شفافية في التشكّل، يخضع للرقابة والتحصيل الضريبي، وتُعاد من خلاله توجيه التدفقات النقدية نحو مسارات قابلة للتسوية الخارجية، بدلًا من دورانها داخل حلقة مغلقة تزيد من اختناق النظام المالي الفلسطيني.

وبالرغم من فوائد التحول الرقمي في إتمام المدفوعات، إلا أنه يمكننا القول، لو أعتمد المجتمع الفلسطيني بأكمله على الدفع الإلكتروني، فإن الأموال الورقية التي تم إيداعها سابقًا سواء لرواتب، أرباح متاجر، وغيرها، ستبقى مكبّله داخل خزائن البنوك الفلسطينية، ما لم يتم إطلاق سراحها خارج أسوار البنوك. ولكن هنا، علينا أن ننوه أيضًا، إلى أن تحرير الشيكل المتكدّس وضخه في السوق المحلي لا يشكل حلًا لأزمة التكدس، كونه لا يتعدى مفهوم التدوير الداخلي لأموال راكدة. بصورة أدق، إذا تم الإقتصار فقط على تدوير الشيكل داخل الإقتصاد الفلسطيني، سوف يتم إعادة إنتاج نفس المشكلة بعد فترة وجيزة بدلًا من تصديرها أو امتصاصها خارج النظام المصرفي. وعليه، فإن أي حلول مطروحة ستظل محدودة الجدوى ما دامت تفتقر إلى منفذ خارجي لتصريف الفائض من الشيكل. وفي هذا الإطار، تبرز الحاجة الملحّة إلى تكثيف الجهود الدبلوماسية على كافة المستويات، لتوجيه هذا الفائض نحو مصدره الطبيعي – أي الجانب الإسرائيلي – من خلال ربطه بتسوية الإلتزامات المالية الناجمة عن استيراد السلع والخدمات.

ونظرًا لإستثنائية المشهد الفلسطيني، ولطبيعة الأزمة التي تبدو للوهلة الأولى تحديًا ماليًا واقتصاديًا، بينما هي في جوهرها الحقيقي سياسي بإمتياز، فإنه لا يمكن تكييف نجاح التجارب العالمية التي أثبتت فعالية أنظمة الدفع الإلكتروني في الحد من تكدّس النقد الورقي على الواقع الفلسطيني. وعليه، فإن التعويل على هذه الأنظمة كحل سحري يُنقذ النظام المصرفي من أزمته قد يكون رهانًا مبالغًا فيه، ما لم يُرافقه تصور شامل وإجراءات داعمة تأخذ بعين الإعتبار التشابك المعقّد بين المشهدين السياسي والاقتصادي، وانعكاساتهما المباشرة على تفاقم التحديات التي يواجهها القطاع المصرفي. وبالتالي، نكرر لا يوجد حل واحد “أمثل”، بل هي مجموعة من الإجراءات المتكاملة التي يجب أن تعمل بالتوازي لتحقيق أقصى قدر من الفعالية.

  • د. محمد زيد – محاضر في جامعة فلسطين التقنية- خضوري – كلية الأعمال والإقتصاد

شاهد أيضاً

محافظ قلقيلية يستقبل السفير الصيني تسنغ جيشين ويطلعه على واقع المحافظة

محافظ قلقيلية يستقبل السفير الصيني تسنغ جيشين ويطلعه على واقع المحافظة

شفا – التقى اللواء حسام ابو حمدة محافظ محافظة قلقيلية في مكتبه اليوم السفير الصيني …