
تحليل نقدي لقصيدة “وصلة..!!” ، للشاعر عبد الحميد شكيل ، بقلم: رانية مرجية
خاص – شفا
حين يتحوّل الشعر إلى ارتحال صوفيّ في ذاكرة المدن
ليست القصيدة “وصلة..!!” عملًا شعريًا اعتياديًا يمكن تناوله بمنهجية تقليدية تنطلق من الموضوع أو البنية أو المجاز، ذلك أنها قصيدة تُقرأ كما يُقرأ النَفَس: لا تُمسَك، بل تُستَشعَر؛ لا تُدرّس، بل تُرتّل في داخل الذات كتراتيل حزنٍ مشرقٍ يقطر من الأمكنة.
منذ العنوان، يدخلنا الشاعر عبد الحميد شكيل في حالة من التعلّق المشبوه، حيث “الوصلة” لا تشير إلى شيء ماديّ بقدر ما تفتح الباب على صلة روحية، رمزية، مشبعة بالغموض الوجداني، بين الذات والمدينة، بين الصوت والموسيقى، بين اللغة والغياب. الوصلة ليست رابطًا بل خيط انقطاع شفاف، فيه ما يشبه الإيماءة الأخيرة في رقصةٍ طويلة من المعنى والحنين.
- في وشاح الريح: شعرية الانسياب ومجازات التبخّر
“حين حملتُ الماء في وشاح الريح”
هذه الجملة الافتتاحية تُدخلنا رأسًا في فضاء المفارقة الجوهرية التي تحكم النص: التماس بين المادي واللا ملموس، بين المحسوس والمستحيل.
الماء لا يُحمل، والريح لا تمسك، لكن الشاعر يجمع بينهما ليعلن من اللحظة الأولى أنه لا يكتب ما يُرى، بل ما يُشبه أن يُشعَر.
نحن أمام كتابة مجازية لا تمتح من قاموس الزينة البلاغية، بل من بئر صوفية تسائل الوجود من بوابة اللغة. الماء في وشاح الريح، القرنفل على حزن التلال، الوردة كوثر الدرب… كلها صور تقوم على التضاد الخلاق، لا على التجانس السطحي.
- الجغرافيا بوصفها وجدانًا: الشعر حين يسكن المدن
من “باب القنطرة” إلى “باب السويقة”، من النحاسين إلى الزنقة، من شيراز إلى بغداد، من “يبوس” إلى “الطواسين”، القصيدة تتحوّل إلى خريطة وجدانية تتجاوز المسافات، حيث المكان ليس سياقًا، بل كينونة شعرية.
المدن ليست ديكورًا في قصيدة عبد الحميد شكيل، بل شخصيات رئيسية، تنبض وتئنّ وتغني وتتهجّى الشوق وتتمتم بالأسماء. إننا أمام شعر مدينيّ من نوع خاص: لا يحتفي بالحجر، بل بما تقوله الأرصفة لحذاء العابر؛ بما يهمسه العرق للظل، والذاكرة للشباك المفتوح.
في “السويقة”، يزفر درويش. وفي “شيراز”، يشطح الآخر.
وفي “يبوس”، تقف الثكالى على الأبواب.
إنها مدن تطوف فيك أكثر مما تطوف بها.
- القصيدة كرحلة: بين الصمت البلاغي والجنون العاقل
في قوله:
“تعلمتُ الصمت البلاغي..
وانتميتُ لحديث المكان..!!”
نبلغ ذروة النص من حيث الوعي الشعري. فالصمت هنا ليس انقطاعًا عن الكلام، بل امتلاء بما لا يُقال. وهو في هذا يعيد تعريف القصيدة: إنها ليست ما نكتبه، بل ما نسكته بتواطؤ جميل مع اللغة.
ثمّة مجازفة فكرية عميقة هنا، فالشاعر يبتعد عن البلاغة التقليدية ليؤسّس بلاغة صامتة، تقيم في الشبه، وتهمس في الغياب.
وفي مكان آخر، يُشير إلى:
“رأيتُ المعرّي يشد مئزره..
يمر إلى لغة في لزوم الكلامْ..”
هنا يضعنا أمام المعرّي بوصفه أيقونة التناقض بين الصمت والحكمة، وكأن الشاعر يقول: لقد زرتُ المعنى من طريق الحيرة، لا من طريق القاعدة. وهذا إعلان وجودي، وجوداني، بأن الشعراء لا يقتدون، بل يتهجّون.
- عنق القصيدة الممتدّ من الدهشة حتى الألم
“يااااا جيدها على لحن العناقْ..”
“يااااا شغف القلب..”
“يااااا حلم العمر..”
تكرار “يااااا” ليس ترفًا صوتيًا بل امتداد عضوي للنداء، وحنجرة الألم الشعري. كأن القصيدة تستغيث بذاتها، أو تنادي مَن لم يعد يسمعها، في هذا الزمن المتخم بالبكاء الصناعي.
وفي قوله:
“سفحتُ لغتي..
على عشب نهر..
احتميتُ من نارها..
ببهاء الزنج.. وغناء القِيانْ..”
نكون أمام مفارقة جمال مؤلم: اللغة تُسفح، والبهاء في الغناء يُحتمي به من النار.
هذه ليست قصيدة حب، بل قصيدة مقاومة ناعمة ضد قسوة الإدراك.
- تأويل النهاية: القصيدة كطقس وداع
الختام يشبه صلاة ناعمة:
“كيف نستعيد، بهاء تلك السنينْ اللطاف..؟؟؟!!”
هنا تنكشف المسافة كاملة بين الشعر والزمن، بين الذات والعمر، بين ما كان وما لن يعود.
السؤال لا ينتظر جوابًا.
إنه وصلة ألم في آخر رقصة الدهشة.
خلاصة نقدية:
“وصلة..!!” ليست قصيدة تُقرأ، بل تُعاش.
هي نصّ سيري – عرفاني، يكتب الذات وهي تذوب في مدنها، وتتصوّف بلغتها، وتحاور غيابها.
إنها قصيدة لا تنتمي إلى مدرسة، بل تفتح بابًا نادرًا لمدرسة جديدة:
مدرسة المكان كوجدان، واللغة كعرَجٍ جميلٍ في رقصة المعنى.
قصيدة عبد الحميد شكيل تليق بأن تُدرّس في فنّ “الحنين المركّب”، وفي دروس البلاغة الصامتة