
غزة بين طهران وتل أبيب: ساحة دمٍ للبيع والشراء السياسي ، بقلم : المهندس غسان جابر
في زوايا الخارطة الشرق أوسطية، تقف غزة لا كرقم صغير في معادلة الصراع، بل كلبنة مركزية في لعبة النفوذ بين إيران وإسرائيل. وبينما تتبادل طهران وتل أبيب الضربات العلنية والسرية، تتحول غزة إلى أكثر من ساحة حرب: إلى سلعة سياسية تُشترى وتُباع، ويُستثمر فيها الدم الفلسطيني لتحقيق مكاسب تتجاوز حدودها.
غزة كأداة تفاوض إقليمية
ليست غزة طرفًا مباشرًا في المفاوضات النووية، ولا لها مقعد في أروقة قمة العشرين أو مفاوضات فيينا، لكنها تحضر هناك بقوة، كورقة ضغط بيد إيران، وكعبء أمني واستراتيجي في حسابات إسرائيل. وكلما اشتد التوتر بين الطرفين، كانت غزة أول من يدفع الثمن، وآخر من يُستشار في أي تسوية.
إيران، وإن نفت رسميًا تدخّلها في تفاصيل المفاوضات حول غزة، فإن دعمها المستمر لفصائل المقاومة — سياسيًا وماليًا وعسكريًا — يجعل من القطاع ورقة ضمن “محفظة الضغط الإقليمي” لطهران. إسرائيل، من جهتها، توظف التصعيد في غزة إما لتوجيه رسائل ردعية، أو لتسويق مرونتها الدولية في قبول تهدئة إنسانية، بينما هي في واقع الأمر تضبط إيقاع الدم هناك بحسب مصالحها الأوسع في لبنان أو سوريا أو البحر الأحمر.
هل الفصائل الفلسطينية بلا مسؤولية؟
الحديث عن غزة لا يكتمل دون التوقف أمام الدور الداخلي: فهل الفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حماس والجهاد الإسلامي، مجرد أدوات في يد اللاعبين الكبار؟ أم أنها تمارس استراتيجياتها الخاصة، حتى لو جاءت أحيانًا على حساب سكان القطاع المحاصَر؟
الواقع يكشف أن بعض الفصائل باتت تتقن لعبة “إدارة التوقيت”، حيث يُضبط إيقاع التصعيد والتهدئة وفق مواعيد إقليمية لا وطنية. بيانات القصف تُكتب أحيانًا في غرف الإعلام السياسي الإقليمي، لا في ميدان المعركة. والمقاومة، رغم مشروعيتها، تصبح في بعض اللحظات وسيلة ضغط للتفاوض حول قضايا لا تخص غزة وحدها، بل تخدم تحالفات تتغير وفق خارطة الولاءات.
ومن المفارقات المريرة أن دعمًا ماليًا يُضخ للقطاع لا يُستخدم دومًا لتحسين الواقع الإنساني، بل يُستثمر سياسيًا لتعزيز شرعية هذا الفصيل أو ذاك، فيما يزداد الفقر، وتتآكل البنية التحتية، ويُقصى المواطن الغزي عن القرار والمصير.
استثمار الدم الفلسطيني: دوليًا وفلسطينيًا
لم تعد دماء الفلسطينيين تثير الغضب العالمي كما كانت، بل باتت تُستثمر بطرق متعددة: تُستخدم صور المجازر لفرض ضغوط على الأطراف الإقليمية، ولتسجيل نقاط سياسية في المفاوضات الكبرى. المشاريع الدولية لإعادة الإعمار، التي تُعلن بعد كل حرب، كثيرًا ما تكون منصات للربح والمصالح السياسية، لا للإنقاذ الحقيقي. وعلى الصعيد الفلسطيني، تُستخدم هذه المآسي لتسويق الخطاب الفصائلي، أو للحصول على دعم إضافي من الحلفاء الإقليميين.
مصير غزة: سؤال بلا مالك حقيقي
من يقرر اليوم في غزة؟ هو سؤال معقد، لأن القرار موزع: بين حماس كسلطة أمر واقع، وإسرائيل كقوة احتلال تتحكم في الحدود والمعابر، وإيران كراعٍ سياسي وعسكري للفصائل، ومصر وقطر كوسيطَين دائمين، والسلطة الفلسطينية كممثل شرعي ضعيف ومُقصى، والولايات المتحدة كضامن للأمن الإسرائيلي. في هذا المشهد، يغيب صوت الشعب، وتغيب أولوياته.
نحو رؤية وطنية: هل من مخرج؟
لن يكون لغزة مستقبلٌ كريم دون مشروع وطني فلسطيني مستقل عن كل المحاور. ما دامت الفصائل تربط قرارها بالعواصم، فلن تكون غزة أكثر من بند في مفاوضات لا تخصها. المطلوب ليس فقط مقاومة الاحتلال، بل مقاومة الاختطاف السياسي، وبناء مرجعية وطنية قادرة على فرض الإرادة الفلسطينية كعامل رئيسي في أي تسوية.
الدم الفلسطيني ليس عملة تفاوض، ولا مادة استثمار، بل وجعٌ يجب أن يتحول إلى صرخة وطنية لاسترداد القرار، وتحرير غزة من ثنائية الاحتلال والاستقطاب الإقليمي.
نقول غزة لم تعد مجرد ضحية. هي اليوم أسيرة بين مشاريع الفصائل، وأجندات الإقليم، وصفقات الكبار. إنها ورقة تفاوض، وساحة استثمار دماء، ومنصة توازنات لا يملك الفلسطينيون مفتاحها الكامل. والخلاص لن يأتي من طهران ولا من تل أبيب، بل من وحدة وطنية تقطع حبال التبعية، وتعيد غزة إلى موقعها الطبيعي: جزءًا من المشروع الوطني الفلسطيني، لا ورقة في جيوب الآخرين.
- – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.