
الشرق الأوسط الجديد ، نيران العدوان وخطط التفكيك الكبرى، بقلم : مروان إميل طوباسي
في لحظة مفصلية من الصراع الإقليمي ، جاءت الضربة العسكرية الإسرائيلية ضد إيران فجر هذا اليوم ، كترجمة عملية لرغبة متجددة في فرض الأمر الواقع بقوة النار ، وتكريس ميزان ردع يُقصي الخصوم ويكرس إسرائيل قطبا مهيمناً على خرائط الشرق الأوسط الجديد الذي طالما تحدثت عن ترتيباته الجارية في مقالاتي السابقة وخاصة بعد ان تم تحيبد سوريا وتفكيكها وما جرى في لبنان وقبل ذلك بتفكيك العراق لخدمة المشروع الصهيوني اسرائيل الكبرى .
باعتقادي ، لم تكن الضربة مجرد رد أمني أو تحذير ، بل كانت جزءً من مشروع أوسع لتفكيك مراكز القوى المناهضة ، ولإرسال رسائل مركبة إلى الداخل الإسرائيلي وإلى طهران وإلى عواصم القرار بالعالم ولنا نحن الفلسطينين وإلى العواصم الأوروبية التي تفرض العقوبات على إيران مع اقتراب موعد المؤتمر الدولي بعد ايام في نيويورك لدعم حل الدولتين . وهذا ما يجعل الحدث أعمق من كونه عملية عسكرية عابرة ، بل مشهدا سياسيا مكتمل الأركان في إطار صراع تقوده العقلية الصهيونية يدفع شعبنا ثمنا كبيرا له .
من حيث المبدأ ، لا يمكن لإيران أن تمرر هذا الاستهداف دون رد من وجهة نظري لاااعتبارات مختلفة اليوم رغم شدة الضربة وأثرها ، لكن طهران تُدرك في الوقت ذاته أن الانجرار إلى مواجهة شاملة يخدم مصدر الاستفزاز المتمثل في إسرائيل . هي الآن أمام اختبار مزدوج يتلخص في ، حفظ هيبة الردع من جهة ، وتجنب انفجار إقليمي واسع قد تكون إسرائيل وواشنطن قد أعدتا له مسبقا بشكل جيد .
لكن ، الردّ الإيراني قد يأتي بطابع غير متوقع ، وربما غير مباشر ، عبر أدوات اخرى ان تمكنت من ذلك . لكن الأكيد أن طهران سترد على الاعتداء الكبير ، لأنها لا تملك ترف التراجع أمام جمهورها ، ولا أمام حلفائها .
رغم محاولة بنيامين نتنياهو تحويل التصعيد ضد إيران إلى إنجاز أمني يعزز وضعه السياسي الداخلي وعلاقته مع ترامب ، إلا أن تداعيات أي مواجهة طويلة وصعبة ، أو حرب استنزاف بأسلوب إيراني متعدد الأدوات كما ذكرت ، قد تضعف حكومته وتعرّيه سياسيا.
ففي حال لجأت طهران إلى استنزاف إسرائيل عبر هجمات سيبرانية، وتعطيل ممرات بحرية، أو تحريك جبهات متعددة من اليمن إلى لبنان المنهك ، فإن الأثر سيمتد إلى الاقتصاد الإسرائيلي ، والمجتمع الذي أنهكه العدوان المستمر على غزة وعلى لبنان . سيعود الانقسام الداخلي الإسرائيلي إلى الواجهة ، وسيتساءل الإسرائيليون إن كان نتنياهو يقودهم نحو الأمن أم نحو الهاوية.
أي تآكل في “الردع الإسرائيلي”، إن تحقق ، سيُفقد نتنياهو ما تبقى من أوراقه أمام معارضيه بعد ان نجح امس بالحفاظ على حكومته بعدم حل الكنيست ، سواء في المؤسستين الأمنية والعسكرية أو في الشارع الإسرائيلي ، وقد يتحول هذا المشهد إلى ما يشبه بداية النهاية لمستقبله السياسي .
وراء ستار الصمت الرسمي الأمريكي الكاذب ، تختبئ شراكة متجذرة بالطبع . فالدعم العسكري المفتوح لإسرائيل ، والغطاء السياسي في المحافل الدولية، يكشفان عن عمق التواطئ ، رغم ادعاءات ترامب “عدم العلم” بالضربة .
السياسة الأمريكية ، سواء مع بايدن أو ترامب وكل الإدارات السابقة ، لم تتغيّر في جوهرها الإستراتيجي من خلال دعم غير مشروط لإسرائيل كوليدة الإستعمار الغربي الحديث وخط الدفاع الاول عن الحضارة الغربية في مواجهة حضارة الشرق ، وتجاهل لحقوق شعبنا الفلسطيني وشعوب المنطقة الأخرى ، ما دامت مصلحة “الحليف الاستراتيجي” مضمونة . هذا التواطئ هو ما يمنح إسرائيل هامش المناورة والعدوان ، دون أن تخشى العقوبة ، ويكرّس منطق القوة بدلا من منطق القانون وفق الشراكة الإستراتيجية بينهما ومحدداتها المختلفة العقاىدية والإقتصادية والأمنية .
إن ما نشاهده اليوم ليس مجرد حادث أمني ، بل امتداد لرؤية جيوسياسية وضع معالمها دونالد ترامب وطبقها بنيامين نتنياهو . رؤية تقوم على تفكيك البيئة المعادية لإسرائيل عبر ثلاث أدوات هي القوة العسكرية ، التطبيع ، والتفريغ السكاني من خلال الدفع الى التهجير ، وهو امر ابتدأ مع ما سمي بمشروع الربيع العربي الذي استهدف استقرار الدولة الوطنية وتفكيكها كما مشاهد نتائجها اليوم .
من غزة التي تُستهدف بحصار وتجويع ومحارق وعدوان ابادة متواصل ، إلى لبنان الذي يواجه تهديدات ميدانية بشكل يومي ، ومن الضفة الغربية التي تُنهش بالاستيطان والضم وإلى القدس بالتهويد ، إلى إيران التي تُضرب اليوم وإلى تدجين ما تبقى من دول المنطقة التي تدفع هي نفسها ثمن ذلك لترامب ، تتكشف خريطة إعادة هندسة المنطقة بيد إسرائيل وبرعاية أمريكية.
بالنسبة لنتنياهوز، لا يمكن لأي كيان او فكر مقاوم أن يبقى خارج السيطرة . وبالنسبة لترامب ، فإن أمن إسرائيل لا يُبنى فقط بالجدران ، بل بتفكيك خصومها ، جغرافيا وديموغرافيا ، وإن اقتضى ذلك تهجير شعوب ، أو سحق قوى بأكملها.
اذن المنطقة اليوم ، على شفير صيف حارق وصفيح ساخن . إن لم تتدارك القوى الإقليمية والعالمية الأمر ، وإن لم تتأسس منظومة ردع عادلة ، فإن مرحلة الانفجارات القادمة قد لا تكون محدودة ولا محصورة في الجغرافيا الإيرانية أو الفلسطينية.
إن زمن المعادلات التقليدية قد تغير ، ومن يظن أن بوسعه أن يبني الأمن بالقوة فقط ، سيكون أول من يكتشف هشاشة ذلك الأمن في لحظة الحقيقة وخاصة الآن امام انتظار رد إيراني كبير وفق التهديدات التي نسمعها من هنالك هذه الساعات وامكان أنجرار أو تورط قوى أخرى في ساحة الصراع التي تسعى الولايات المتحدة الى تقويض الامن فيها وانجاز انتصارات فيها بعد فشلها في مواجهة الصين بالحرب الإقتصادية وفي حربها بالوكالة لأوكرانيا مع تصاعد غضب شوارع وشعوب العالم اليوم ضد سياساتها وسياسات دولة الأحتلال . الأيام القادمة ستكون حبلى بالمتغيرات ، ننتظر ونرى .