
الرواية التي لا تُقهر: من إدوارد سعيد إلى “مادلين”… فلسطين تنتصر بالكلمة ، بقلم : المهندس غسان جابر
في زمن تتكاثر فيه الروايات وتتنازع فيه السرديات، تبرز الرواية الفلسطينية اليوم كصوتٍ أصيل، لم يعد بالإمكان تجاهله أو تشويهه. تغير المزاج العالمي ليس صدفة، بل نتيجة لنضال طويل متعدد الأوجه، بدأه مفكرون مثل إدوارد سعيد، وتبنّته أطر سياسية حية مثل حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، واستكمله دبلوماسيون أوفياء لقضيتهم أمثال السفير حسام زملط والسفيرة أمل جادو.
من القاعات الأكاديمية إلى شوارع أوروبا… الرأي العام يتغيّر
نتائج استطلاع مركز “بيو” الدولي لعام 2025 تضع أمامنا مشهداً جديدًا: أغلبية مواطني 24 دولة حول العالم باتوا يرون إسرائيل كدولة معتدية وغير أخلاقية. من السويد إلى كندا، من هولندا إلى إندونيسيا، تسود قناعة متزايدة أن ما يجري في فلسطين ليس نزاعًا، بل ظلمٌ تاريخيّ مستمرٌ لا يمكن تبريره.
هذا التحوّل الجذري في الرأي العام لا يأتي من الصور وحدها، بل من رواية واثقة، علمية، إنسانية، وصادقة… رواية فلسطينية انتصرت حين آمنت بقدرتها على مخاطبة العالم بلغة يفهمها العالم.
إدوارد سعيد… الصوت الذي لا يزال يعلو
رغم رحيله منذ أكثر من عقدين، لا يزال إدوارد سعيد حاضرًا في كل ندوة وجامعة ومناظرة. لقد أسس بفكره وبلاغته نواة السردية الفلسطينية المعاصرة، وجعل من القضية الوطنية سؤالًا أخلاقيًا عالميًا، وليس مجرد أزمة سياسية محلية. حراك الجامعات الغربية اليوم، من هارفارد إلى أكسفورد، هو ثمرة لما زرعه سعيد: فلسطين كمرآة للعدالة في العالم.
وما نراه من اعتصامات طلابية ورفض أكاديمي للمشاريع الإسرائيلية في الجامعات، ليس إلا امتدادًا لروحه. كأن صوته لا يزال يتردّد: “ليست الرواية الإسرائيلية هي المهيمنة، بل غياب البديل الفلسطيني الواثق هو ما أعطى لها شرعية”.
حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية: من الفكرة إلى التأثير
في هذا السياق، تبرز حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية كإطار سياسي حيوي يعيد تقديم القضية بلغة هذا العصر: الحرية، والعدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان. لقد أدركت المبادرة منذ سنوات أن المعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل في الفضاء الرمزي والإعلامي والدبلوماسي، فأحسنت أدواتها، وأطلقت صوتها في المحافل الدولية، والبرلمانات، والمؤسسات الحقوقية.
وعبر تنسيقها لحملات المقاطعة (BDS)، وتوثيق الجرائم، ونشر الشهادات الميدانية، وتقديم خطاب مدني جامع، استطاعت أن تسهم بفعالية في إعادة صياغة النظرة العالمية لفلسطين.
زملط و جادو … الدبلوماسية التي تحاكي الضمير
الدبلوماسية الفلسطينية لم تكن يومًا بأمسّ الحاجة إلى أصوات نزيهة وفعالة كما هي اليوم. وهنا، لا بد من الإشادة بالدور الفاعل للسفير د. حسام زملط في بريطانيا، الذي يخاطب الإعلام الغربي بلغة هادئة، عقلانية، لكن حادة في الحقيقة. ومن خلال ظهوره الإعلامي المكثف، وكتاباته المؤثرة، حوّل زملط الرأي العام البريطاني إلى قوة ضاغطة حقيقية لصالح فلسطين.
كما تُعد السفيرة أمل جادو، نائبة وزير الخارجية الفلسطينية وسفيرة فلسطين لدى الاتحاد الأوروبي، أحد أعمدة الحضور السياسي الفلسطيني في أوروبا. بمهنيتها العالية، وخطابها المتّزن، استطاعت أن تحشد دعمًا نوعيًا من داخل مؤسسات القرار الأوروبية، وتُثبّت الرواية الفلسطينية في قلب النقاشات السياسية، لا على هامشها.
“مادلين”: ليست مجرد سفينة… بل رمز يُستحق الخلود
في خضم هذا التغيير الدولي، جاءت حادثة سفينة الحرية “مادلين” لتُشكّل لحظة رمزية جامعة: قارب صغير حاول كسر الحصار عن غزة، فاعترضه جيش الاحتلال بأسلوب فجّ، أعاد للأذهان صور “مرمرة” وشجاعة المتضامنين الدوليين.
“مادلين” ليست حدثًا عابرًا، بل أيقونة يجب أن نُخلّدها في الذاكرة الوطنية. ولهذا، فإننا ندعو إلى تصميم طابع بريدي فلسطيني يحمل اسمها وصورتها، مع إشارة واضحة لترسيخ رمزية الكفاح السلمي الفلسطيني، وإحياء الدور الشعبي والدولي في دعم غزة.
طابعٌ صغير… لكنه كفيل بأن يحمل للعالم رسالة كبرى: أن الحرية لا تُقمع، وأن الرواية الفلسطينية ستبحر دائمًا، مهما اشتدّت العواصف.
نقول:
من صوت إدوارد سعيد في قاعات الجامعات، إلى صدى حسام زملط وأمل جادو في المنابر الدولية، ومن تعب المبادرة الوطنية الفلسطينية في الشارع والمؤسسات، إلى شجاعة سفينة “مادلين”… كلها خيوط في نسيجٍ واحد اسمه السردية الفلسطينية.
لقد تغيّر العالم، وآن لفلسطين أن تثق بصوتها، وتفرض روايتها، وتُخلّد رموزها. فالرواية التي صمدت في وجه أعتى حملات التضليل… هي الرواية التي لا تُقهر.
- – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.