
“تحت القصف وخلف الطاولة: من يسرق الغزيّ مرتين؟” بقلم : الصحفي سامح الجدي
في غزة، لا تأتي الحرب وحدها. تأتي ومعها طوفانٌ من الألم والدمار، والانقطاع والعطش، والخذلان، ثم من نوع آخر من الطعن: السرقة من الداخل. ففي الوقت الذي تمطر فيه الطائرات الإسرائيلية صواريخها على البيوت والمستشفيات، يمدّ البعض أيديهم لا ليساعدوا، بل لينهبوا. ليسوا جنود احتلال، بل تجّار وصرافون قرروا أن يخوضوا حربهم الخاصة على أهلهم، من خلف الطاولة لا من خلف المتراس.
ما بعد القصف: جبهة السوق السوداء
ما أن تبدأ الغارات حتى تتعطل البنوك، وتُشلّ الحركة البنكية الرسمية، ويجد آلاف الفلسطينيين أنفسهم مضطرين للجوء إلى السوق السوداء للحصول على تحويلاتهم من الخارج. كثير من العائلات لا تملك مصدر دخل سوى ما يرسله الأقارب من الشتات، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
لكن ما يحصل في مكاتب الصرافة يشبه تمامًا ما يحصل في سماء غزة: نهب ممنهج. في كثير من الأحيان، تتجاوز نسبة الخصم على الحوالات المالية 30%، وهو ما يعني أن الغزيّ المحاصر، الذي ينتظر 100 دولار من أخيه في الخارج، يتسلّم منها بالكاد 70 دولارًا. أما الثلاثون المتبقية، فتذوب في جيوب من قرروا أن الحرب موسم أرباح.
الجوع تجارةٌ أيضًا
لا يقتصر الأمر على الصرافين، بل يمتد إلى بعض التجار ممن يرون في الحصار وانقطاع الإمدادات فرصة لرفع الأسعار بشكل جنوني. كيلو الطحين يتضاعف، عبوة المياه تصبح سلعة نادرة، والدواء — إن وُجد — يُباع بضعف قيمته. يُحتكر البنزين ليباع على قارعة الطريق بخمس أضعاف ثمنه. كل شيء في غزة يُستغل، حتى الحليب لأطفال النازحين.
الأسوأ أن هذا الفجور التجاري يتم باسم الظروف، وبحجة “العرض والطلب”، وكأن العدالة الاقتصادية تُلغى في الحروب، ويُسمح للضمائر أن تسقط دون حسيب أو رقيب.
السرقة من الداخل .. أقسى
الحرب الإسرائيلية على غزة معروفة وواضحة: عدوان دموي ومكشوف، لا يحتاج إلى تفسير. لكن النهب الاقتصادي الذي يمارسه بعض الصرافين والتجار أقسى وأخطر من القصف أحيانًا، لأنه يتم بوجوه مألوفة، وبأيدٍ كان يجب أن تمتد بالعون لا بالسطو.
إن من يربح من وجع الناس لا يختلف كثيرًا عن من تسبب به. ومن يبني ثروته على دمار وطنه هو خائن حتى وإن لم يطلق رصاصة.
ما العمل؟
لا يمكن انتظار الحكومة وحدها في ظل حالة الطوارئ، لكن يمكن للمجتمع أن يتحرك:
التوثيق: توثيق أسماء وأماكن الصرافين والتجار الذين يستغلون الحرب.
المقاطعة: رفض التعامل معهم قدر المستطاع، ومشاركة البدائل النزيهة.
الضغط الإعلامي: تسليط الضوء على هذه الممارسات من خلال مواقع التواصل والمنصات الصحفية.
المساءلة القانونية: ما بعد الحرب، لا بد من ملاحقة قانونية لكل من استغل ظروفها للنهب.
خاتمة: من يسرق الغزيّ مرتين؟
العدو يقصف غزة بلا رحمة، لكن ماذا نقول عمّن ينهب أبناءها وهم تحت الردم؟
من يسرق الغزيّ في الحرب مرتين: مرة من السماء، ومرة من خلف الطاولة.
نقول له: قد لا تراك طائرات الاستطلاع، لكنّ التاريخ لا ينسى.