
نعم سلبت حقي في البكاء لأنني رجل! بقلم : د. وسام أبو رميلة
في خبرٍ صادم هزَّ قلوب الجميع، أبٌ يُلقي بطفليه في السيل بدولة ما، وكأنَّ الماء الذي يُنعش الحياة صار مقبرةً صغيرة للأحلام البريئة. انهالت التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي: “كيف يفعل ذلك؟”، “إنه مجرم”، “متعاطٍ مدمن”؛ كلمات مليئة باللوم والسخط ملأت الفضاء الإلكتروني، وكأنَّ الحكم عليه صدر دون استئناف. لكن خلف هذه القصة المأساوية، قد تكون هناك معاناة أعمق مما نتصور، معاناة تدقُّ ناقوس الخطر حول قضية غالبًا ما يتم تجاهلها: الصحة النفسية للرجال (للآباء) في الأزمات النفسية والاقتصادية والاجتماعية.
الصحة النفسية ليست رفاهية
إنَّ الأب الذي صار عنوانًا لبوستات الغضب التي غمرت وسائل التواصل الاجتماعي ، ربما كان ضحية لإدمان أو انهيار نفسي لم يجد له ملاذًا. الصحة النفسية ليست رفاهية تُترك للصدفة، بل هي ضرورة تمس كل إنسان. الرجال، رغم دورهم التقليدي كمعيلين وأعمدة للأسرة، كثيرًا ما يقفون وحدهم في مواجهة ضغوط الحياة، دون أن يجرؤوا على البوح بما يشعرون . لأن المجتمع ما زال يعتبر الحديث عن الضعف النفسي “عارًا”، وطلب المساعدة “إهانة”.لكن ماذا لو كان هذا الأب قد وجد من يستمع إليه؟ ماذا لو شعر بالأمان ليقول: “أنا محطم، لا أستطيع الاستمرار”؟ ربما كانت النتيجة مختلفة تمامًا.
أهمية متابعة العلامات البسيطة
الصحة النفسية ليست كالعواصف، تهب فجأة، بل تبدأ كنسيمٍ خفيف بالكاد يُلحَظ. قد يمرُّ شخصٌ ما بتغيراتٍ بسيطة: انسحاب اجتماعي، قلة النوم أو النوم المفرط ، فقدان الاهتمام بالأشياء التي كانت تثير شغفه، غضب أو انفعال زائد دون سبب واضح، كلمات عابرة تشير إلى شعور بالاختناق أو الرغبة في الاختفاء.
كل هذه العلامات هي صرخات غير مسموعة، لكنها تحتاج إلى من يلتقطها قبل أن تتحول إلى مأساة.
الإدمان بحاجة لعلاج نفسي ودوائي
ربما كان الأب الذي مرَّ بهذا الحدث ليس فقط ضحية لضغوط الحياة، بل قد يكون أيضًا قد عانى من الإدمان (وفقاً لما يقال). الإدمان ليس فقط مشكلة سلوكية أو بدنية، بل هو أزمة نفسية وعاطفية تتطلب علاجًا نفسيًا ودوائيًا. بالإدمان يرافقه أعراض انسحاب قد تكون مؤلمة للغاية، مما يدفع الشخص إلى اتخاذ قرارات مدمرة له ولمن حوله. الأمر لا يتوقف عند لحظة الانسحاب، بل يحتاج إلى متابعة مستمرة وعلاج مكثف لمتابعة الوقاية من الانتكاسات. الشخص المدمن في حاجة إلى دعم نفسي وعلاجي يشمل الاستشارات النفسية، بجانب الأدوية التي تساعده على تخفيف أعراض الانسحاب، لتقليل المعاناة وتحقيق الشفاء التام.
هل فكرتم بما مرَّ به هذا الأب خلال ذلك اليوم قبل أن يُقدم على إلقاء طفليه في السيل؟
ربما كان يعاني من حالة نفسية متدهورة بسبب الضغط الناتج عن الإدمان، وربما كانت تلك اللحظة هي القشة التي قسمت ظهره، دون أن يدرك العواقب الكارثية لما يفعل. هذا ليس تبريرًا لما حدث، بل هو دعوة لنا جميعًا حتى نلتفت إلى المعاناة النفسية التي قد يخفيها الكثيرون خلف ملامحهم. وقبل فترة من الزمن، أيضًا، ألقت أمٌّ ابنها الرضيع في نهر بالعراق. كان ذلك خبرًا صادمًا لنا جميعًا، ومأساة أخرى تُجسد كيف يمكن للألم النفسي أن يتحول إلى فعل لا إرادي يدمر حياة من حولنا. تلك الأم، مثل الأب في القصة السابقة، ربما كانت قد وصلت إلى نقطة الانهيار، لم تجد مخرجًا من ضغوط الحياة النفسية، فكانت النتيجة مأساوية.
الضائقة الاقتصادية و صورة الرجل التقليدية
إنَّ الضائقة الاقتصادية تمسُّ بقدرات الرجل الاجتماعية وصورته المتوارثة عبر الأجيال، فهو المعيل وهو الذي يحمل وحده كل المسؤولية. هذا يجعل أي رجل يمرُّ في ضائقة اقتصادية يتعرض لضغط نفسي أكبر. من جهة، هناك تقصير مادي في حاجات عائلته الأساسية، ومن جهة أخرى، يُعتبر ذلك تكسيرًا لصورة “الرجل الحديدي” التي صنعها المجتمع عبر الزمن. إضافة إلى ذلك، فإن الشخص الذي وقع ضحية للإدمان قد يرتكب أي شيء حتى يحصل على ثمن المواد التي يستهلكها، دون تفكير منه إذا كان ذلك ثمن حليب لأطفاله أم ثمن غاز التدفئة مثلًا. ولا ننسى أن الرجل في المجتمعات العربية يكبر على قوانين تمنع التعبير عن المشاعر لأنه رجل؛ فهو ممنوع من البكاء والصراخ، وممنوع أن يقول: “أنا أشعر بضيق!” فهو “جبل المحامل”، كما قال المثل.
لا تخجل من طلب المساعدة
“أن تضع يدك على جرحك ليس ضعفًا، بل شجاعة”. كثيرون يخجلون من فكرة العلاج النفسي، ويعتبرونها إشارة إلى أنهم فاشلون. لكن الحقيقة أن طلب المساعدة هو أول خطوة نحو القوة. إنَّ الحديث مع مختص يمكن أن يُنقذ حياة، ليس فقط حياة الفرد، بل حياة من يحبهم أيضًا. كم من أمٍّ قتلت أطفالها وهي غارقة في اكتئاب ما بعد الولادة دون أن تدري؟ كم من أبٍ ارتكب أفعالًا مؤذية تحت وطأة ضغوط لم يعد يحتملها؟ إنَّ النفس، حين تهوي في ظلامها، تفقد البوصلة، وقد يتحول الإنسان إلى عدو لمن يحب في لحظة!
لنجعل الحديث عن الصحة النفسية مألوفًا
من المؤلم أن تكون الصحة النفسية موضوعًا نهمس به خجلًا، بينما يجب أن يكون حديثًا يوميًا طبيعيًا. هذا يبدأ منك عزيزي القارئ، عليك أن تشجِّع من حولك على الحديث عن مشاعرهم، وعليك أن تصغي دون حكم ، وعليك أن تذكِّرهم دائما بأن استشارة طبيب نفسي أو معالج ليست علامة ضعف، بل دليل على قوة إرادة لإصلاح الأمور. تمامًا كما نذهب للطبيب عند المرض الجسدي، يجب أن يكون العلاج النفسي جزءًا مألوفًا من حياتنا.
كلمات أخيرة
إنَّ النفس البشرية تشبه الزجاج، تبدو صلبة للوهلة الأولى، لكنها قد تنكسر بضغطة صغيرة غير متوقعة. والجرح النفسي أشبه بالشعلة الخافتة التي إن لم تُطفأ، قد تتحول إلى حريق هائل يأتي على كل شيء جميل. لا تدعوا أحبّتكم يحترقون بصمت. كونوا الماء الذي يُطفئ النار، كونوا الصدر الذي يستندون إليه حين تعصف بهم الحياة. إنَّ هذه الحادثة المؤلمة ليست مجرد قصة نقرأها ونغلقها، بل هي دعوة لأن نكون أكثر إنسانية، لأن نتوقف عن إصدار الأحكام السريعة، وأن نمدَّ أيدينا قبل فوات الأوان. الصحة النفسية مسؤوليتنا جميعًا، فلنجعل الحديث عنها طبيعيًا، لأن الأرواح أثمن من أن تضيع بسبب الخجل أو التجاهل أو تهميش الصحة النفسية.
فلنكن تلك الكف التي تحنو، وذلك القلب الذي يصغي، فلنكن نحن النور و التغيير، ولنستمع جيداً لصحتنا النفسية.