3:13 مساءً / 27 أبريل، 2024
آخر الاخبار

سلمى والأخريات، بقلم : زينب الغنيمي

زينب الغنيمي

سلمى والأخريات: بين السماء والطارق في ظل العدوان الصهيوني الهمجي، بقلم : زينب الغنيمي

“سلمى” التي أعرفها، قصّتها تشبه قصص الكثير من النساء إن لم يكن غالبيتهن، وهي التي أُّجبرت على النزوح من مدينة غزة خلال الشهر الأول تقريبًا للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتعيش الآن في خيمة في منطقة مواصي رفح قرب البحر. لم تكن تعلم أنَّ رحلتها نحو الجنوب ستكون متعبةً ومُذلّةً وأنّها ستخسر فيها الكثير من المال والعلاقات الشخصية التي لم تكن تتوقًع يومًا خسارتها.

لم تكن سلمى تعرف أيضًا أنّ رحلة النزوح تلك ستُجبرها على الانتقال أولًا إلى بيت معارفٍ لها في خانيونس، ثم من بيت هؤلاء إلى بيتٍ آخر في نفس المنطقة ثم إلى مدرسةٍ للإيواء، ثمَّ الانتقال إلى رفح في مدرسةٍ أيضًا. بعد كُلّ هذا، أُجبرَت مُجدّدًا على الخروج من المدرسة نظرًا لسوء الأوضاع هناك لتنتقل إلى خيمةٍ اشترتها بما يعادل نحو سبعمائة دولار بالشراكة مع آخرين من الأقارب. ثمّ، وفي ظلّ تزاحم عددٍ كبيرٍ من الناس داخل الخيمة وأكثرهم من الأطفال الصغار، بالإضافة إلى عدم ارتياحها لتعاملهم معها، اضطرت للانتقال مجددًا إلى خيمةٍ أخرى مع أناسٍ آخرين، ممّا كلّفها دفع المزيد من النفقات الباهظة.

كحال فاطمة وسميرة وليلى وغيرهنّ الكثيرات، لم تكن سلمى تدرك أنّ رحلة النزوح تلك ستمتد لشهورٍ غير معلومة العدد، بل قد تتجاوز السنة. أو أنّها ربما لن تعود أبدًا إلى مدينتها غزة وإلى بيتها. أو لو تمكّنت من العودة فربّما لن تجد بيتها، ذلك البيت الذي غادرته مُسرعةً وملهوفة بعد الإعلان الذي سمعته عبر الراديو ومن الجيران ومن أقاربها المقيمين جوارها بأنّ منشوراتٍ هبطت من السماء عبر الطائرات مثل “زخّ المطر” تأمر الناس المقيمين بالمنطقة بالنزوح نحو الجنوب، وإلّا سيصبُّ جيش الاحتلال الإسرائيلي غضبه عليهم وعليهن، وغضب هذا الجيش ليس من السهل تجاهله لأنه يتحوّل في ثوانٍ معدودةٍ إلى قذائف حارقة وقاتلة، وصواريخٍ من الطائرات الحربية مدمّرة بحيث تدفن العمارة ومن فيها في باطن الأرض دون أن يكون هناك من ينقذهم.

تساءلت سلمى في اتصالها الهاتفي معي عن “إن كانت ستعود إلى مدينة غزة وإلى بيتها، ومتى؟” فقد تعبت من التشرّد ومن الحياة في الخيمة مع أشخاصٍ غرباء عنها. ورغم محاولتها التكيّف مع الظرف ومعهم، غير أنّه لا يوجد في الخيمة أيّ نوعٍ من الخصوصية لديها، سواء في النوم أو الأكل أو الشرب أو الاستحمام أو الحديث عبر الهاتف أو استقبال ضيوفٍ من أصدقاء أو أقارب. علّقت لي أثناء الحديث بإحباطٍ ويأس “على فكرة هيك الحياة في الخيام، العيون حواليكي طول الوقت، تراقب شو بتعملي ومع مين بتحكي ومين بيزورك، وإيش اشتريتي، ورجيني شو حاملة معك. تفاصيل صعب الواحد يقولها، خلّيها على الله”، قبل أن تختم تعليقها بتنهيدةٍ عميقة شعرت بحرقتها عن بُعد.

شرحت لي مستوى الغلاء الذي يُجبرها على أكل أيّ طعامٍ متوفّر لأنها لا تتمكّن من شراء ما تريد، كما أنّها مضطرةٌ لمشاركة من تعيش معهم فيما يأكلون ويشربون، بحيث إذا احتاجت إلى أو اشتهت شراء نوعٍ ما من الخضار أو الفاكهة، مع العلم بغلاء الأسعار، فهي مضطرةٌ إلى شراء ما يكفي كلّ من في الخيمة، لذلك تمتنع عن شراء أيّ شيءٍ لأنّ المال الذي معها محدودٌ ويكاد ينفذ.

تردّدت في إبلاغها أنّ منزلها بات شبه مدمّر، فبعد خروجها بأقلّ من شهرٍ ومع الاجتياح جيش الاحتلال البرّي لمدينة غزة، تلقّى منزلها قذيفةً أجهزت على نصف الطابق العلوي حيث توجد غرفة نومها، ولاحقًا تلقّى الطابق السفلي قذيفةً حارقة أجهزت تمامًا على محتوياته وجدرانه. ولكنني في نهاية الأمر ارتأيت بأنّ عليّ إبلاغها عمّا حدث لبيتها كي تُعيد ترتيب أمورها وهي تحلم بالعودة لغزة.

وقد فاجأتني الحقيقة بردّها، وقالت جملةً سبق أن قالتها الكثير من النساء اللواتي أعرفهن، وقُلنها الكثيرات من لا أعرفهنّ أيضًا وهنّ يتحدّثن مع صحافيين عبر الإذاعات والتلفزة بأنه لا يُهمّ تدمير البيت ولكن العودة أهم، “أنا جاهزة أنصب خيمة على أرض البيت وأعيش فيها لحالي وبمساحتي الخاصة بدل البهدلة اللي إحنا فيها”.


ذكّرني حديثنا بزميلتي سميرة التي قالت لي “خيمة على أنقاض بيتي ولا هالعيشة اللي كُلّها ذُلّ بذل”. أما صديقتي فاطمة فقد قالت “أشعر أنّ زوجي بطّل يعرفني وأنا بطّلت أعرفه، عايشين زي الغُرباء عن بعض وسط الناس اللي إحنا عايشين معهم، ياريت نرجع بخيمة على أرض عمارتنا المهدومة بس نكون لحالنا عشان نبني حياتنا من أول وجديد”.

أمّا سلمى، فتعترف في حديثها أنّها تشكر الله على أنّها عزباء ولم تتزوّج كي لا تحمل همّ الأولاد أو البنات، وكي لا تتعارك مع زوج على تفاصيلٍ تافهةٍ جوهرها ضيق المساحة الخاصة في مثل هذه الظروف، حيث قالت “جارتي في الخيمة دايمًا مشاكل مع جوزها عالفاضي والمليان، الناس مخنوقة من هذه العيشة”، واستطردت قائلة “الأمهات في كلّ الخيام حولي طول اليوم شغل ما بيخلص، الطبيخ على الحطب، وإيديهن جرمزوا من الغسيل، وطول اليوم صراخ على الأولاد والبنات. حتى الرجال صاروا بيساعدوا بس مش كثير. جارتي بتقول أحسن خليه برّه الخيمة حتى أخلّص شغلي، مش فاضية أتخانق معه، هيك أحسن ما بدّي يساعدني ولا بإشي”.

تذكّرت ما قالته لي فاطمة عن الشابة التي استشهدت عائلتها وكانت في مستشفى في خانيونس، الأمر الذي دفعني لسؤال سلمى عن إن كان حولها نساءٌ فقدن أيًّا من أسرهن. ردّت بحزنٍ شديد بأنه لا يوجد خيمة ليس فيها شهيد أو شهيدة أو مفقودين أو جرحى، وختمت بأنها تظنّ أن الجميع يحتاج لعلاجٍ نفسي للتشافي مما حدث معهم ومعهن.

بالفعل، إنّنا جميعنا وبغضّ النظر عن الدين أو المستوى الاقتصادي أو المركز الاجتماعي نحتاج للتعافي والتشافي مما نعيشه من خوفٍ ورعبٍ وتهديد. أحد هذه الأمثلة كانت جارتي التي غادرت منزلها خشيةً من دخولٍ مفاجئ لجيش الاحتلال للمنطقة وتعرّض حياتها للخطر، فسارعت باللجوء للكنيسة. وبالرغم من ذلك تقول أنها في وضعٍ صعب وأنّ حياة اللجوء لمكانٍ آخر وسط أعدادٍ كبيرة من الناس ليست سهلة بتاتًا، فهي تُعاني من نقص الاحتياجات الأساسية من الطعام. كما أخبرتني أنّ الكنيسة لا يتوفّر بها كلّ الاحتياجات، وذلك برغم الإشاعات التي راجت بين الناس إزاء الوضع في الكنيسة وأنّه أفضل حالاً وأنّ الناس فيها لا ينقص عنهم أي شيء، وهي، مثل الآخرين، في ضائقةٍ تؤثر على نفسيتها وتهتك خصوصيتها بينما هي تنتظر انفراج الوضع لكي تعود إلى بيتها.

ذكّرتني هذه الجارة بيوم الخامس من حزيران سنة 1967 عندما احتلّ الجيش الصهيوني قطاع غزة. حينها لجأت عائلتي مع معظم سكّان الحارة إلى مسجد للاحتماء به باعتباره بيت الله. ولكن في ظلّ هذا العدوان، مثل غيره من العدوانات، لم تعد بيوت الله آمنةً في غزة فقد دمّر الجيش كلّ المساجد في كلّ المناطق، حتى كنيسة الروم الأرثوذكس قُصف منها الجزء الملاصق لزاوية إسلامية وراح ضحية تلك الغارة نحو خمسة عشر شخصًا مسيحيًا.

تقول إحداهنّ، واسمها ليلى “أشعر أنني أعيش في مركز إيواءٍ رغم أنني في منزل”، وهي مقيمةٌ في بيت به ما لا يقلُّ عن ستين شخصًا في ثلاث شُقق سكنية، وجميعهم مرتبطون ببعضهم البعض في المأكل والمشرب والمشاركة في توفير الاحتياجات الرئيسية، بينهم أصدقاء وبينهم أقارب. وتسترسل قائلةً “طابور بالدّور على الحمّام والاستحمام، وطابور عند الأكل، وطابور عند غسيل الملابس، والتزام إجباري في مواعيد النوم والصحو والحركة. أوه! شو أعد لمّا أعد، ما بتقدري تفكري تاكلي أي إشي لحالك حتى لو كنت جوعانة. بين الوجبات بأخجل آكل عشان حصص الخبز محدودة وحصص الأكل محدودة، ولو بدي اشتري بسكوتة ياكلها ابني أو بنتي، أو لو بدي أعطي ابني كيس شيبس لازم أسكّر باب الغرفة، وأخلّيهم ياكلوا عشان ما حدا يشوفهم، مع أنه الكل بياخد حصته، بس أنا ولادي ما بياكلوا حصّتهم مرة واحدة، وهذا ينطبق على كل شيء بحياتنا. بتصدّقي إني ما بقدر أقول لجوزي تعال نحكي بالغرفة، لأنه إمّه بتطلّع علي وأختي بتزورني، والله حياتنا صعبة صعبة فوق الخيال، أنا نفسيتي تدمرت”.

وهناك أم جبر التي أخبرتنا “دخلوا علينا اليهود الدار فجأة نص الليل بعدما اقتحموا المنطقة. حطّونا كلّنا بغرفة النسوان والأولاد الصغار، والرجال والشباب بغرفة. ضربوهم، حتى جوزي فوق الستين ما وفّروه برضه ضربوه، وكانوا يسألوهم إذا بيعرفوا وين الأسرى الجنود مخبياهم حماس. طيب إحنا شو بيعرّفنا وين! هي حماس معقول بتقول لحدا عن أسرارها؟ بعدين طلّعونا إحنا والأولاد وقالوا لنا روحوا على الجنوب، ولما طلعنا ما قدرت أنا أمشي في الرمل والشوارع المحفورة، قلت للبنات ولكنّتي روحوا انتوا وأنا بستنى يطلعوا الشباب، وضلّيت واقفة بعيد عن البيت لغاية ما الجنود طلعوا وأخدوا معهم اثنين من أولادي وحفيدي، ولما رجعت شفت اشي بيهزّ البدن ابني الكبير مكسّرين ضلوعه وجوزي مش قادر يتحرك واثنين من أحفادي بعمر 15 و16 سنة ضاربينهم كثير”.

هذه قصص بعضٍ من كُلّ، ربما منها المكرّر، وربما هي حكايات كُلّ النساء اللواتي أصبحن بلا بيوتٍ ويبتن في الخيام في العراء وفي مراكز النزوح. إنّ كلّ إمرأةٍ وراءها حكاية وقصة علينا أن نوثّقها كي لا ننسى ماذا يعني أن يكون لنا عدوٌ حاقد متوحّش، يقتل عشرات الآلاف ويُصيب أضعافهم من الآلاف، ونحو 27% منهم من النساء، مع العلم بأنّ معظم الإصابات تسبّبت لما لا يقل عن ثلاثين بالمائة منهم بإعاقات ومشاكل صحيّة وحركية وذهنية دائمة.

وكي لا ننسى، علينا أيضًا الاستمرار في بعث الأمل كي ننهض من عثرتنا، وككُلّ يومٍ نرجو أن يقف هذا العدوان كي نستطيع المضي قدمًا في حياتنا وما تبقّى منها.

زينب الغنيمي، من مدينة غزة تحت القصف والحصار

شاهد أيضاً

المستوطنات الاستيطان

تقرير : العقوبات الأميركية، مناورات مضللة، لا توقف استيطانا ولا تردع ارهاب المستوطنين

شفا – مديحه الأعرج – المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان، إشاعات كثيرة تتردد …