4:59 صباحًا / 19 أبريل، 2024
آخر الاخبار

من ( اذهبوا فأنتم الطلقاء) إلى ( إنّ شانئك هو الأبتر) بقلم : د.أحمد أبو مطر

لا يستطيع عاقل يستخدم نسبة بسيطة من عقله وفهمه وإدراكه الإنساني إلا أن يستنكر بأشدّ العبارات، ذلك الفيلم الذي موّلته وأخرجته مجموعة من فاقدي القيمة البشرية، يتهجمون فيه بطريقة مبتذله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الرسول الذي قال فيه الله تعالى ( وإنّك لعلى خلق عظيم)، فهل بعد ذلك يحطّ من مقامه العالي السامي ادعاءات وأكاذيب هدفها التشويه والفتنة؟. وهذه الإدانة من منطلق أنّه ليس من حق أحد التعدي على ديانات الآخرين ومعتقداتهم ورسلهم، فالكلّ حرّ فيما يعتقد ويؤمن (لكم دينكم ولي دين). وإذا كانت كافة القوانين تحاكم وتحاسب أي شخص يعتدي بالإساءة ولو اللفظية على شخص عادي مثله، فكيف تكون المحاسبة والمحاكمة عندما تكون الإساءة بحق رسول من أنبياء الله تعالى، يزيد عدد معتنقي ديانته اليوم عن مليار ونصف مواطن في كافة دول العالم، من بينها ما يزيد على خمسين دولة غالبية سكانها يؤمنون ويتعبدون بديانة الإسلام. وأعتقد أنّ تلك المجموعة فاقدة الحسّ الإنساني هدفها الشهرة، خاصة أنّه في السنوات الماضية أصبحت الإساءة للإسلام كرسالة سماوية، هو أسرع الطرق للشهرة الزائفة ليس عند الغربيين فقط ولكن لدى بعض العرب والمسلمين أيضا.
 وللأسف الشديد لا ينالون هذه الشهرة إلا بسبب الردود الهمجية المتخلفة لبعض المسلمين على اساءاتهم تلك، رغم أنها شهرة مؤقتة تطفو على السطح لفترة ما يلبث بعدها أن يعود أصحابها لدائرة النسيان. والمثال الساطع هو الكاتب البريطاني من أصل هندي ( سلمان رشدي )، فقد أصدر أربع روايات بين عامي 1975 و1987 منها روايتا ( أطفال منتصف الليل، 1980 ) و ( العيب، 1983 )، ورغم أهمية هاتين الروايتين موضوعا وإسلوبا وبناءا فنيا، إلا أنه لم يحقق شهرة وانتشارا إلا بعد صدور روايته  (آيات شيطانية ) في سبتمبر 1988 ، وظلت رواية غير معروفة ولا منتشرة حتى صدور فتوى الخميني بتكفيره وقتله في فبراير 1989 . أدّت هذه الفتوى لشهرة واسعة سريعة له نتج عنها لاحقا ترجمة الرواية لما لا يقل عن خمسة وثلاثين لغة في مختلف أنحاء العالم، ووضعه تحت حماية البوليس البريطاني طوال الوقت. هذا رغم أنّه في الرواية اعتمد بشكل ما على خلفية ما يسمى في كتب التاريخ الإسلامي ( حديث الغرانيق ) الذي لا إجماع عليه عند شيوخ ومؤرخي السيرة النبوية، بل يطعن فيه ويدلّل أغلبهم على كذبه واختلاقه، إلا أنّ هذه الشهرة والانتشار لسلمان رشدي وروايته ما كانت ستحصل لولا فتوى الخميني، التي كان وراءها خلفيات سياسية خاصة بالعلاقات الإيرانية البريطانية، بدليل أنه في سبتمبر 1998 أعلنت القيادة الإيرانية إسقاط الفتوى الخاصة بتكفير سلمان رشدي وإهدار دمه، وعادت على الفور العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وأعقب ذلك في نهاية العام 1990 اعتذار سلمان رشدي عن أية إهانات قد تسبب بها للدين الإسلامي والرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

مسيئون للرسول وكذّابون مخادعون مع بني جلدتهم أيضا

والمدهش أنّ الذين يقفوا وراء انتاج وتمويل هذا الفيلم لم يمارسوا الإساءة للرسول الكريم فقط، بل مارسوا الكذب والدجل والتزوير مع وعلى من استدعوهم من الممثلين والممثلات للمشاركة في الفيلم، فقد أعلن ثمانون ممثلا ممن شاركوا في هذا الفيلم القبيح براءتهم منه، موضحين بجرأة وصراحة أنّهم تعرضوا للخداع والكذب والتزوير، مؤكّدين أنّ من يقدم نفسه باسم”سام باسيل” قد خدعهم واحتال عليهم للمشاركة في الفيلم، وانّهم لم يعرفوا أنّ ما سيصوره سيتم تحريفه واعادة مونتاجه ليصبح مسيئا للرسول ومناهضا للإسلام، لذلك أصدروا بيانا نشروه عبر قناة”سي إن إن” يتبرأون من الفيلم موضحين حرفيا ” نشعر بالغضب لأنّ المنتج خدعنا، ونؤكد أنّنا تعرضنا للتضليل كي نشارك في هذا الفيلم”. وقد أعلنت واحدة من الممثلات في الفيلم وهي الممثلة ” سيندي لي غارسيا” قائلة: ( إنّ محمد لم يكن اسمه محمد في النص، بل كان اسمه “ماستر جورج” وأنّ لفظة محمد أضيفت خلال عملية المونتاج، كذلك الإهانات الموجهة للإسلام و لمحمد…لا ذنب لي في ما حصل…أشعر بالغثيان لأنّ هناك من فقد حياته بسبب فيلم، كما أشعر بالغضب من التعديلات التي طرأت على الفيلم بعد تصويره”، مؤكدة أنّها سوف تقاضي المدعو باسيل بكل تأكيد.

لص وكاذب ومحكوم قضائيا

وضمن السياق نفسه، أكّدت تحريات “راديو سوا” الأمريكي أنّ من يقف وراء هذا الفيلم التافه شخص اسمه (نقولا باسيلي نقولا)، وافادت وكالة”اسوشيتد برس” استنادا إلى مصادر في مكتب التحقيقات الفيدرالي أنّ هذا الشخص هو من يقف وراء انتاج وتمويل الفيلم، وانّ سجله  سيء جدا داخل الولايات المتحدة، وهو ينتحل صفات متعددة، وسبق أن وجهت له تهمة تزوير وثائق بنكية، وحكم عليه بدفع غرامة قيمتها 790 ألف دولار بالإضافة إلى السجن لمدة 21 شهرا. وللأسف الشديد أنّ هذا الشخص يتاجر بقضية المواطنين المصريين معتنقي الديانة المسيحية (الأقباط) جاعلا من نفسه رئيسا لدولة مزعومة لا وجود لها إلا في مخيلته المريضة، بدليل اقتياد البوليس الفيدرالي له للتحقيق معه، بسبب عدم انصياعه للضوابط المفروضة على سلوكه اللصوصي ومنها عدم استخدامه الكومبيوتر والانترنت لخمس سنوات، وكم كان منظره ذليلا وهو يخبىء وجهه ورأسه عند اقتياد البوليس الأمريكي له، فكيف يكون رئيسا لدولة مزعومة وهو لص محترف عليه قضايا سرقات واحتيالات بمئات ألاف الدولارات؟. لذلك كانت إدانة المواطنيين المصريين من الأقباط لسلوكه المشين داخل مصر وخارجها بنفس شدة إدانة المسلمين، بما فيها ما لايقل عن أربعين منظمة قبطية خارج مصر.

وقسّ مجنون حسب رأي ابنته

أمّا القس “تيري جونز” الذي تعهد برعاية ودعم الفيلم، وسبق له أن هدّد بحرق نسخة من القرآن الكريم ثم تراجع عن هذه الخطوة الهمجية بعد أن أدرك حجم التنديدات الأمريكية الرسمية والشعبية، فهو أيضا مجرد شخص متعصب يبحث عن شهرة وأهمية يفتقدها داخل الكنيسة، ويكفي أنّ ابنته “ايما” طالبته بوقف هذا العمل المشين، ووصفت والدها بأنه مجنون ، وهي لا تعيش معه لأنه في الكنيسة التي يديرها يجبر على الطاعة من خلال “العنف العقلي” ويهدد بعقاب الله. وقالت إنه تجاهل رسائلها عبر البريد الالكتروني التي حثته فيها على عدم حرق المصحف. هذا ومن المعروف أنّ كنيسته هذه لا يتعدى المنتمون لها أكثر من عشرات وليس مئات، وسجله حافل بالأخطاء والتجاوزات فقد سبق طرده من ألمانيا. وكذلك الكاتب الأمريكي الشهير جون جريشام، أدان خطط هذا القس الأمريكي وقال: “هذه حملة لشخص غير متسامح للغاية، إنه مجنون ومتعصب دينيا ينشر الكراهية بدلا من الوفاء بواجبه كقسيس” . وبعد أن حقّق هذا القس الشهرة العارمة التي كان يتطلع إليها، عاد إلى بعض رشده ولم ينفذ فعلته القذرة الواعدة بحرق نسخة من القرآن الكريم.

ردود فعل عربية أكثر اساءة للرسول

هل كان كل هذا الهيجان في العديد من العواصم العربية والإسلامية لنصرّة الرسول صلى الله عليه وسلم؟. سيقول كثيرون: نعم. وأنا أقول استنادا لسيرة الرسول الكريم: لا..و ألف لا..لقد كانت ردود الفعل التي شاهدناها وتحديدا في ليبيا ومصر واليمن والسودان وغيرها، تخالف تماما وتتعارض صراحة مع تعاليم وسلوك الرسول مع الذين أساءوا إليه أكثر بكثير من مقاطع هذا الفيلم التافه الذي لا يستند إلى أية حقائق موثقة، وهي ردود فعل متخلفة غير إنسانية، تعطي المسيئين حججا جديدة لإساءات قادمة، وهكذا يستمر المسلسل الهمجي من الطرفين، وتكفي هذه الأمثلة من سلوك الرسول إزاء أولئك المسيئين له بحقارة أشدّ بكثير من مقاطع هذا الفيلم:

1 . ماذا فعل الرسول مع كفار قريش الذين حاربوه بكل الوسائل، وقالوا فيه وعنه أقذع الصفات والشتائم، لدرجة أنّهم لم يرحموه وهو يطوف بالكعبة مؤلبين عليه، مشككين في رسالته ونبوته مدّعين أنه مجرد ساحر، يلقون عليه مع السباب والشتائم الحجارة والقاذورات، وكم كانوا يفرحون ويهللون وهم يرمون مؤذن الرسول بلال بن رباح بالحجارة في لحظة رفعه الأذان. ولمّا مكّنه الله تعالى من نشر دعوته ودخل مكة منتصرا، قال لكفار قريش الذين حاربوه بكل الوسائل وتحالفوا مع أعدائه: ” يامعشر قريش، ما تظنون أنّي فاعل بكم؟. هل يتخيل أحد غير القتل والدم انتقاما مما فعلوه وارتكبوه بحق الرسول من جرائم بشعة؟. أجابه كفار قريش: (أخ كريم وابن أخ كريم). قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). هل هناك تسامح وخلق أرقى من هذا؟. أليس هذا التصرف الأخلاقي كان سببا لإيمان ألاف من قريش بدعوته واعترافا بنبوته؟.

2 . قصة الرسول الكريم مع جاره اليهودي الذي كان يهزأ من الرسول بإلقاء الزبالة والأشواك والقاذورات كل صباح على باب منزل الرسول، وعندما يخرج الرسول ويشاهدها، يأخذها ويلقيها في المكان المخصص للقاذورات. واستمر هذا العمل المهين من جاره اليهودي أياما عديدة، وفي صباح يوم لم يجد الرسول القاذورات على باب منزله، وبعد السؤال عرف أنّ جاره اليهودي مريض، فدقّ بابه واستأذنه بالدخول وزاره يسأل عن صحته متمنيا له الشفاء، فسأله الجار اليهودي: وما أدراك يا محمد أنّي مريض؟. أجابه الرسول: (عادتك التي انقطعت). فبكى اليهودي بكاءا شديدا، ناطقا بالشهادتين معلنا إسلامه. لماذا؟ بسبب هذا السلوك الحضاري المتسامح الذي لا يردّ على الإساءة بمثلها، هذا السلوك الذي يهتدي بقول الله تعالى (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).

كيف نحكم إذن على تصرفات بعضنا باسم نصرة الرسول؟

1 . ماذا ارتكب السفير الأمريكي وطاقمه الدبلوماسي في ليبيا ضد الرسول، كي يقتلوا بهذه الطريقة  الإجرامية البشعة الحقيرة من مجموعة ترتكب جريمتها وهي تهلل باسم الله تعالى ورسوله الكريم؟. هل انتصروا للإسلام والرسول بهذه الطريقة أم أعطوا حجة جديدة لمن يريدون التهجم على الإسلام والرسول؟. الجواب على سؤالي هذا، جاء من العديد من الجهات العربية والإسلامية الرسمية والدعوية، ترفض هذا الإسلوب المشين الذي يتمّ ارتكابه باسم الإسلام والرسول. وتكفي الإشارة للمواقف الرافضة المدينة بشدة من:

_ منظمة التعاون الإسلامي على لسان أمينها العام أكمل الدين إحسان أوغلي الذي أدان العنف من كل جانب، قائلا: ”  في حين أن الفيلم المسيء كان عملاً تحريضياً بمعنى الكلمة، فلا يمكن التغاضي عن اللجوء إلى العنف الذي أدى إلى إزهاق أرواح بريئة” مؤكدا على ” أنّ المجتمع الدولي لا يمكن أن يكون رهينة لأفعال المتطرفين على كلا الجانبين .. و أنه لا يمكن التوصل إلى حل إلا من خلال معالجة المسائل المتصلة بحرية الدين وحرية التعبير من خلال المشاركة الدولية المنظمة”.

_ الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، الذي قال في تعليق كتبه في صفحته بموقع”تويتر”: ( الوفاء للرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، يكون بتقديم سيرته ورسالته إلى العالم، وليس بقذف السفارات بالحجارة…فليس من الوفاء له صلى الله عليه وسلم أن نذهب إلى السفارات ونرميها بالحجارة، ونقتل السفير ومن معه…نردّ على المسيئين بما يليق برسالة الإسلام وتعاليم القرآن وأخلاق حضارته ولا نردّ بالعنف، فنكون نحن الأقوى والأكرم والأمثل).

_ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والافتاء في المملكة العربية السعودية، استنكر بوضوح الهجمات التي استهدفت عددا من الدبلوماسيين والسفارات في دول مختلفة، معتبرا ” أنّ تلك الهجمات تشوّه وتسيء إلى الدين الإسلامي وليست من سنة النبي محمد في شيء”. مناشدا في الوقت ذاته دول العالم والمنظمات الدولية إلى ” تجريم الإساءة للأنبياء والرسل” ، ومعلنا ( أنّه يحرّم على المسلمين أن يأخذوا البريء بجريرة المجرم الآثم، ويعتدوا على معصوم الدم والمال أو يتعرضوا للمنشآت العامة بالحرق والهدم).

_ الداعية الإسلامي الحبيب بن علي الجفري، أدان الفيلم و ردود الفعل عليه بجملة مهمة للغاية إذ قال: (إنّ المسؤولية مشتركة بين المرتكب ومن أثار مشاعر شعوب تعاني فوضى مخاض التغيير الدامي….إنّ المجتمع الإنساني بحاجة لمعالجة تفشي التطرف الذي يجعل التحريض على الكراهية حرية تعبير، والاعتداء بقتل الأبرياء دفاعا عن المقدسات).

_ وهناك عشرات الإدانات من شخصيات دعوية ومنظمات إسلامية من بينها خطباء الأزهر وحزب النور السلفي في مصر، وغالبية الحكومات العربية والإسلامية و دول العالم بمختلف توجات سياساتها.

فهل مجموعة القتلة الذين يرتكبون هذه الأعمال الإجرامية باسم الدين والنبي أفهم وأعقل من كل هذه الشخصيات الدينية الإسلامية التي أدانت وتدين دوما أفعالهم الإرهابية، مستعملين الدي الإسلامي غطاءا لجرائمهم، مما يجعل اساءاتهم للإسلام أبشع من أي فيلم أو رسوم كاريكاتورية وهي مدانة أيضا؟.
وهل الاعتداءات على رجال الأمن وقذفهم بالحجارة وقنابل المولوتوف كما شاهدنا خاصة في محيط السفارة الأمريكية وميدان التحرير في القاهرة انتصارا للرسول؟. وهل قيام “ابو اسلام أحمد عبد الله” صاحب قناة الأمة بحرق نسخة من الانجيل على مرأى المتظاهرين أمام السفارة الأمريكية بالقاهرة وتهديده بالتبول عليه، يعتبرعملا أخلاقيا لنصرة الرسول، أم كما أدانه الكثيرون يعتبر عملا بشعا لا يختلف عن مواقف القس تيري جونز والفيلم المسيء للرسول؟.

الخلاصة، إنّ الإساءة للدين الإسلامي والرسول محمد وأية ديانة أخرى ورسل آخرون مرفوضة ومدانة بشدة، وكذلك ردود فعل بعض العرب والمسلمين على ذلك، لأنّها أبشع كونها ترتكب باسم نصرة الإسلام والرسول..فهل يعي هؤلاء الجهلة مصلحة أمتهم ودينهم؟
 
www.drabumatar.com

شاهد أيضاً

مؤسسة عير عميم : اسرائيل هدمت منذ بداية الحرب 141 منشأة بالقدس الشرقية

شفا – أكدت مؤسسة حقوقية إسرائيلية أن نسبة هدم المنازل في القدس الشرقية تضاعفت خلال …