
هل تولد أوسلو جديدة في غزة؟ حماس بين سلاح العقيدة وسياسة الممكن ، بقلم : المهندس غسان جابر
في السياسة، لا تأتي التحولات الكبرى دائماً على هيئة اتفاقيات موقعة تحت أضواء الكاميرات. أحياناً تبدأ كهمسٍ في الكواليس، أو كجملة محسوبة في مقابلة، أو كاقتراح يبدو في ظاهره تقنياً، لكنه في جوهره زلزال سياسي. ما قاله خالد مشعل عن “تخزين السلاح” ووقف النشاط العسكري مقابل الاستقرار وإعادة الإعمار ليس مجرد تصريح عابر، بل علامة استفهام كبيرة تُطرح اليوم فوق غزة… وفوق مستقبل القضية الفلسطينية بأكملها.
السؤال الذي يفرض نفسه:
هل نحن أمام أوسلو جديدة، ولكن هذه المرة مع حماس؟
أم أننا أمام مناورة سياسية ذكية لشراء الوقت، وتكريس واقع الانقسام الذي بدأ قبل 17 عاماً وتحول إلى قطيعة شبه أبدية بين غزة والضفة؟
من أوسلو السلطة إلى “أوسلو حماس”؟
عندما وُقّعت اتفاقية أوسلو في التسعينيات، لم تكن مجرد اتفاق أمني أو إداري، بل كانت تحوّلاً في هوية الفعل السياسي الفلسطيني: من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال. اليوم، المشهد مختلف في الشكل، لكنه متشابه في الجوهر.
حماس، التي بنت مشروعها السياسي على معادلة “المقاومة أولاً”، تجد نفسها أمام واقع قاسٍ:
غزة مدمرة، المجتمع الدولي يربط الإعمار بالاستقرار، وإسرائيل تسعى إلى “نزع الخطر” دون أن تدفع ثمناً سياسياً حقيقياً. في هذا الفراغ، تظهر فكرة “تجميد السلاح” لا كتنازل أيديولوجي، بل كورقة سياسية.
هنا تحديداً يكمن جوهر النقاش داخل حماس:
هل السلاح غاية أم وسيلة؟
هل هو عقيدة ثابتة لا تمس، أم أداة يمكن تعليقها مؤقتاً للحفاظ على الكيان السياسي للحركة؟
حماس والرهان على الزمن
اللافت في الطرح الحالي أنه لا يتحدث عن تسليم السلاح، بل عن تخزينه، ولا عن سلام، بل عن هدنة طويلة. الفارق هنا ليس لغوياً، بل سياسياً بامتياز. حماس تقول للعالم:
“لن نطلق النار، لكننا لن نوقّع على نهايتنا”.
في المقابل، تدرك الحركة أن الولايات المتحدة وإسرائيل عاجزتان – أو غير راغبتين – في فرض نزع سلاح بالقوة عبر قوة متعددة الجنسيات. هذا العجز هو بالضبط ما تراهن عليه حماس لتقديم نفسها كـ الحل الوحيد الممكن لإنقاذ الخطط الدولية من الانهيار، دون العودة إلى حرب مفتوحة.
بهذا المعنى، لا تسعى حماس إلى مصالحة مع إسرائيل، بل إلى إدارة الصراع بشروط جديدة، تضمن بقاءها لاعباً مركزياً في غزة، حتى لو لم تحكمها شكلياً.
الانقسام: خيار أم قدر؟
لكن السؤال الأخطر يبقى:
هل تسعى حماس لتكريس الانقسام؟
الواقع يقول إن الانقسام لم يعد مجرد خلاف سياسي، بل أصبح بنية كاملة: إدارة، أمن، اقتصاد، خطاب، وحتى وعي جمعي مختلف بين غزة والضفة. بعد 17 عاماً، لم يعد الانقسام حادثة طارئة، بل واقعاً مريحاً – أو على الأقل مقبولاً – لكثير من الأطراف.
حماس اليوم لا تطرح مشروع وحدة وطنية شاملة، ولا تتحدث بجدية عن إعادة بناء منظمة التحرير، بل تركز على غزة ككيان سياسي قائم بذاته، له ترتيباته وضماناته الإقليمية. وهذا، عملياً، يعني القبول الضمني بفصل المسارين:
غزة تُدار بمنطق “التهدئة مقابل الحياة”،
والضفة تُترك لمعادلات أخرى.
ما بين المقاومة والسلطة… المأزق القديم الجديد
المفارقة أن حماس تقف اليوم أمام المأزق ذاته الذي واجهته حركة فتح بعد أوسلو:
كيف تجمع بين الخطاب المقاوم ومتطلبات الحكم؟
كيف تحافظ على شرعيتها الشعبية دون أن تتحول إلى سلطة بلا سيادة؟
الفرق أن حماس تحاول التعلم من تجربة غيرها، فتؤجل الحسم، وتترك الأمور رمادية، وتستخدم السلاح كورقة تفاوض لا كبرنامج عمل يومي. لكنها، بذلك، تفتح الباب أمام اتهامها بأنها تنتقل من مشروع التحرير إلى مشروع إدارة الكيان.
نقول : في المحصلة، ما نشهده اليوم لا يمكن عزله عن الحقيقة الأكثر إيلامًا: أن الفراغ الذي تتحرك فيه حماس، وتناور عبره إسرائيل، وتراهن عليه القوى الدولية، لم يُخلق صدفة، بل صاغته سلبية فصائل فلسطينية فقدت البوصلة، وخواء قيادات استبدلت همّ الوطن بحسابات النفوذ والمصلحة. لم يعد الخطر فقط في مشروع يُطبخ لغزة بمعزل عن الضفة، ولا في هدنة طويلة تُلبس ثوب الحل، بل في غياب موقف وطني جامع يقطع الطريق على كل هذه السيناريوهات.
لقد تحوّلت القضية، في نظر كثير من قادتها، من قضية تحرر إلى ملف إدارة، ومن مسؤولية تاريخية إلى وظيفة، ومن نداء دمٍ وكرامة إلى بيانات باهتة لا تُغضب احتلالًا ولا تُطمئن شعبًا. وبينما تُرسم خرائط جديدة لغزة، وتُختبر “مرونة” السلاح و“واقعية” المقاومة، يغيب السؤال الأهم: أين المشروع الوطني الفلسطيني؟ وأين من يفترض أنهم حراسه؟
ما يحدث اليوم ليس قدَرًا، بل نتيجة مباشرة لقيادات انشغلت بأمور الدنيا، وتصالحت مع الانقسام، واعتادت العيش في ظله، حتى صار الانقسام هو القاعدة، والوحدة هي الاستثناء. وفي هذا الفراغ، تصبح أي تسوية ممكنة، وأي أوسلو جديدة قابلة للحياة، لا لقوتها، بل لضعف من يفترض بهم أن يواجهوها. فالتاريخ لا يرحم المترددين، ولا يغفر لمن فرّطوا في اللحظة، حين كان الوطن أحوج ما يكون إلى رجال دولة… لا إلى تجار مواقف.
- – م. غسان جابر – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .