10:19 مساءً / 4 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

حين تتنفس الثقافة ، وتكتب الروح حضورها ، بقلم : ا.د. عطاف الزيات

حين تتنفس الثقافة… وتكتب الروح حضورها ، بقلم : ا.د. عطاف الزيات

في كل مرة نفتح فيها بابًا على العالم، نكتشف أن الثقافة ليست رفاهية نلوّن بها أوقاتنا، بل هي النافذة التي نطل منها على ذواتنا قبل أن نطل على الآخرين. فالثقافة ليست مجرد كتب تقرأ، أو قصائد تتلى، أو معارف تُخزّن؛ إنها حياة ثانية نعيشها لنفهم الحياة الأولى.

الثقافة تهذب المشاعر، وتربي الذوق، وتعيد ترتيب الفوضى في الداخل. ولذا، فإن شعبًا يحب الثقافة هو شعب يعرف كيف يصوغ مستقبله بيديه، وكيف يحمي ذاكرته من الضياع. إن القارئ، أي قارئ، لا يعيش وحده؛ فكل كتاب يرافقه يصبح صديقًا، وكل نص يمر بين يديه يترك أثرًا صغيرًا يكبر مع الوقت ليصبح بوصلة تقوده إلى وعي أعمق.

ولعل أجمل ما في الثقافة أنها لا تورث أصحابها غرورًا، بل تواضعًا. فالعقول الكبيرة تعرف أن المعرفة بحر لا ضفاف له، وأن مهمة الإنسان ليست أن يحيط بكل شيء، بل أن يسأل، ويسأل، ويسأل… لأن السؤال هو بداية الحكمة.

اليوم، في زمن تتسارع فيه الأحداث أكثر من أنفاسنا، يغدو التشبث بالثقافة ضرورة لا رغبة. فهي التي تمنح الإنسان جذورًا في عالم سريع التقلب، وتمنحه أجنحة في عالم يطلب منه أن يطير. إن الثقافة تُصنع في البيت، في المدرسة، في الشارع، في المقاهي، وفي كل مكان تُحترم فيه الكلمة ويُحتفى فيه بالجمال.

وإذا كانت الثقافة نورًا، فإن الأدب هو لهيب هذا النور؛ يضيء حينًا، ويحرق حينًا، ويوقظ دائمًا. الأدب يفتح في داخل كل واحد منا نافذة على إنسانيته، ويذكرنا بأن العالم لا يقاس فقط بما نملك، بل بما نشعر، وبما نحلم، وبما نحمي من قيمة وجمال.

الثقافة… الجسر الذي يعبر بالإنسان من الفوضى إلى المعنى

حين نتأمل موقع الثقافة في حياة الشعوب، ندرك أنها ليست ترفًا عقليًا أو هواية نمارسها على استحياء، بل هي البنية التحتية للوعي الإنساني، والأساس الذي تقوم عليه المجتمعات القادرة على النهوض والتجدد. فالثقافة هي التي تهدي الإنسان طريقه وسط زحام الأسئلة، وهي التي تعيد تشكيل رؤيته للعالم، فتخرجه من ضيق اللحظة إلى رحابة الفهم.

إن الثقافة تشبه في عمقها مرآة صافية نرى فيها أنفسنا بلا أقنعة؛ نرى نقاط قوتنا فنزيدها، ونرى نقاط ضعفنا فنفهمها بدل أن نهرب منها. وكل مجتمع يحترم هذه المرآة لا يخشى مواجهة الحقيقة، لأنه يعرف أن أي إصلاح يبدأ من الداخل، وأن كل تغيير لا يرتكز على الوعي هو تغيير مؤقت، هش، سرعان ما يتداعى.

ولأن الثقافة تشكل وعي الإنسان، فهي تتجاوز حدود الكتب والمكتبات، لتصبح أسلوب حياة: كيف نختلف؟ كيف نتحاور؟ كيف نصغي؟ كيف نمنح للآخر حق أن يكون مختلفًا؟ فالثقافة ليست ما نعرفه، بل كيف نستخدم ما نعرفه، وكيف نحوله إلى سلوك يومي يظهر أصالتنا ورقينا.

وفي زمن تتكاثر فيه المنصات، وتتزاحم الأصوات، وتتنافس الروايات، يصبح الإنسان في حاجة مضاعفة إلى ثقافة ترشده، وتمنحه القدرة على التمييز بين الصدق والزيف، بين الأصلي والمزور، بين الفكرة التي تنير والعقيدة التي تعمي. فالثقافة اليوم ليست اختيارًا بسيطًا، بل ضرورة دفاعية تحمي الوعي من التشتت والانجراف.

ولعل الأجمل في الثقافة أنها تقيم صداقة حميمة بين الإنسان والعالم؛ تمده بعيون جديدة يرى بها الجمال في التفاصيل الصغيرة: في نبرة صوت، في صفحة كتاب، في مشهد عابر من نافذة، في كلمة صادقة تنقذ يومًا كاملًا من الوحشة. الثقافة لا تغير العالم دفعة واحدة، لكنها تغير نظرتنا إليه، وبذلك تغير كل شيء.

إننا حين نقرأ، لا نبحث فقط عن المعرفة، بل نبحث عن الطمأنينة؛ عن تلك اللحظة التي نشعر فيها بأن ما نمر به ليس غريبًا، وأن في هذا الكون أرواحًا أخرى تشبهنا، تفكر مثلنا، تتألم مثلنا، وتبحث عن الضوء تمامًا كما تبحث عن الفكر والوعي .

شاهد أيضاً

سفير فلسطين في لبنان يستقبل وفداً مشتركاً من ” طليعة لبنان” و جبهة التحرير العربية

شفا – استقبل سفير فلسطين في لبنان الدكتور محمد الاسعد يوم امس الاربعاء ، وفداً …