
نابلس ، مدينةٌ تحرس نكهتها وتعلّم زائريها معنى البقاء ، بقلم : محمد علوش
قدمت باكراً من طولكرم، كأن الطريق إلى نابلس يعرفني كما تعرف الأمُّ نبرة خطوات ابنها العائد، فهذه المدينة لا تستقبل زائريها كغرباء، بل كأبناء يعودون إلى ذاكرة ما زالت مفتوحة، وإلى بوابة لا تغلق.
وما إن اقتربت من طرفها الشمالي عند دوّار الشهداء، حتى أحسست أنني أدخل عتبَة مدينة تحرس نكهتها كما تحرس تاريخها، بدأت النهار بما يشبه الطقس، فطور عند أبو مروان للكباب؛ نار تتّقد على الفحم منذ عقود، وروائح تتسلل كأنها إعلان رسمي بأنك دخلت مكاناً يعرف أن يصنع الفرح رغم كل ما يثقل صدره.
ومن هناك انعطفت نحو مجمع سليم أفندي، حيث تتبدّل الموسيقى فجأة، من هدير السيارات إلى وقع أقدام تنتمي إلى يومها، وإلى أصوات الباعة وهم يفتحون محالهم كما لو أنهم ينهضون بذاكرة مدينة كاملة، فهنا، لا تباع البضائع فقط؛ بل تباع القصص الصغيرة، ويعرض الزمن على الرفوف جنباً إلى جنب مع البهارات والصابون النابلسي.
كلما توغلت أكثر باتجاه أسواق نابلس القديمة، شعرت أن الأزقة لا ترشدك بل تربّيك، وأن الحجارة ليست حجارة، بل صفحات كتبت عليها المدينة سيرتها، مررت بخان التجار، حيث الأقواس الحجرية تقف مثل أكتاف رجال صلبين حمتهم إرادة أهل المدينة أكثر مما حمتهم معاول الترميم، ومن هناك أطليت على جامع النصر، القلب الحجري النابض وسط البلدة القديمة، بجدرانه التي اختلط فيها المملوكي بالعثماني، وتجاورت حوله حكايات آلاف المصلّين والعابرين والباعة الذين كانوا ينامون على أصوات المؤذنين ويستيقظون على ضحكات السوق.
اتجهت بعدها نحو حيّ الياسمينة، ذلك الجزء الذي يتباطأ فيه الزمن ليلحق بروحه، وهنا تتدلّى رائحة الحجارة القديمة من الشرفات، ويطلّ قصر عبد الهادي كذاكرة حية، شاهدة على العائلات التي عبرت، وعلى الموسيقى التي كانت تعزف ليلاً، وعلى المدى الذي اتسع لهذه المدينة قبل أن تضيق بها السياسة والاحتلال، جلست في مقهى صغير في الحيّ، قهوتي الأولى داخل المدينة، قهوة لها طابع يشبه أسلوب النابلسيين في العيش، قوية، وواضحة، ولا تقبل الكثير من السكر.
اشتريت قليلاً من المكسرات والفواكه المجففة والحلويات، كما يفعل كل من يحب أن يحمل من نابلس قطعة لا تنسى، وبين الأزقة أدهشني وجه رجل مسنّ يجلس أمام متجره، ينظر إلى المارّين بعينين اكتسبتا صلابة الجبل وحكمة الزيتون، ومرت امرأة تحمل خضرتها من سوق الخان، تمشي بخطى واثقة كأنها تقول إن قلب هذه المدينة لم يكن يوماً في حجارتها وحدها، بل في ناسها الذين يحمونها بأغاني الصباح وبتكرار الحياة رغم كل شيء.
لكن الهدوء لا يستمر طويلاً في مدينة تحاصر كل يوم، فجأة، تعالت الصرخات، ارتفعت صفارات الإنذار، واقتحم جيش الاحتلال المكان. رأيت سيارات الإسعاف تشقّ الأزقة كندوب بيضاء على جلد نهار كان يمكن أن يكون عادياً، فالاحتلال، كعادته، جاء ليذكّر المدينة بأنها تعيش بين غصّتين: غصّة الحب وغصّة المقاومة، ومع ذلك، لم أرَ الخوف على وجوه الناس، بل رأيت عادةً قديمة، أن يظلّ كل شيء قائمًا، وأن يقف الزمن قليلاً لكنه لا يسقط.
بعد أن هدأت الحركة، اتجهت إلى مقهى “ع الطريق” لأشرب قهوتي الثانية، ومن هذا المكان أحبّ أن أرى المدينة تستعيد اتساعها، وتجمع شتات اللحظة كما تجمع الأمّ ثياب أطفالها بعد المطر، ثم مضيت نحو حلويات أبو صالحة، لأتذوق كنافة تختلف قليلاً عن كنافة الأقصى التي أحبّها في البلدة القديمة، وكان الصحن ساخناً، يلمع بالسمن، وتفوح منه رائحة السكر المحمّص؛ نكهة تشبه نابلس نفسها، قوية، وثابتة، ولا تحتاج إلى إذن كي تستمر.
وفي طريقي نحو الخروج، وقفت عند بابٍ حجري قديم يقود إلى بقايا بيوت تركية وكنعانية صمدت في وجه الوقت كما صمدت في وجه النار والرصاص، تخيلت الأطفال الذين لعبوا هنا قبل مئة عام، والنساء اللواتي كنّ يفتحن النوافذ ليدخل الضوء على خبز الطابون، والرجال الذين حملوا على أكتافهم ما لا يحمل، ثم رحلوا وبقيت المدينة تخبر عنهم.
خرجت مع الغروب، كانت جبال عيبال وجرزيم تستقبل الضوء كما تستقبل المدينة أبناءها العابرين، فنابلس لا تترك زائرها يخرج خفيفاً، تبقي عليه أثراً، رائحة، وابتسامة رجل مسن، ونداء بائع، وطعم كنافة، وصوت أذانٍ يلتقي فوق القباب، أو ذكرى يوم لم يكتمل لأنه تشقّق بفعل الاحتلال، لكنه لم يسقط.
وبرغم كل شيء -كل شيء- تظل نابلس مدينة تحرس نكهتها، وتعلّم زائريها أن البقاء ليس فعلاً من الماضي، بل قرار يصنع كل صباح.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .