
قصيدة الإياب وألم شفيق معلوف ، بقلم : بلقيس عثامنه
يشكل شعر المهجر الجنوبي محطة أدبية بارزة في تاريخ الشعر العربي الحديث، إذ برز فيه عدد من الشعراء الذين هاجروا إلى أمريكا الجنوبية، مثل: إلياس فرحات، الشاعر القروي، ميشيل معلوف، وجبران نخلة، وشفيق معلوف، وقد حمل هؤلاء الشعراء معهم هموم الوطن وقلق الهوية، فانعكست في قصائدهم صور الحنين، والاغتراب، وتبدل المصير، واتسعت رؤيتهم الشعرية لتلامس قضايا إنسانية شاملة، من الدعوة إلى الحرية، ونقد الظلم الاجتماعي، وتأكيد قيمة الفرد، إلى الاحتفاء بالطبيعة التي شكلت ملاذًا روحيًا لهم في عالم جديد غريب. وتميز شعرهم بصدق العاطفة، ووضوح اللغة، ونبرة وجدانية تخاطب الإنسان أينما كان، ما جعل أدب المهجر الجنوبي علامة فارقة في مسيرة التجديد الشعري العربي.
ومن هؤلاء الشعراء البارزين، الشاعر شفيق معلوف الذي جسد وطنه لبنان، وألم الفرق، والهوية الوطنية في صورة بارزة وواضحة، في قصائده الشعرية، وتمثل قصيدة “”الإياب” أحد وجوه تعبيره عن هذا الألم، فالعنوان بذاته يرمز إلى العودة، ويشير إلى ارتباط الشاعر بوطنه، والإنسان لا يعود إلا لشيء يحبه وله تفوق الحضور في وجدانه، والعودة تحمل معنيين، في القراءة الأولى، تشير إلى العودة الجسدية إلى أرض الوطن، وقد تعني العودة الروحية إلى المكان. وتبدأ القصيدة بإشارة إلى معنى مرتبط بفكرة العنوان:
أي صوتٍ أدعى غداة التنادي من نداء الأكــــــــــــــــــــــــباد للأكبــــــاد
صدقت ذمة الزمان فعدنـــــــــــــــــا ننفض الجمر من خلال الرماد
ينقل الشاعر مشاعر الشوق للوطن، وأحقية ابن الأرض بابن أرضه، أي يقصد أن أبناء الوطن ينادي بعضهم بعضًا، وهذا أوضح الأصوات وأكثرها صدى، فاستخدام الدوال: “أدعى، غداة التنادي، نداء الأكباد”، تشير إلى معنى الارتباط بين أبناء الوطن، وهذا ما يرمز إليه استخدام الأكباد، فالكبد الرطبة هي الكبد الحية، وهنا يقصد أن ابن الوطن ينادي ابن الوطن نداءً يحيي الروح، وهذا أحق النداءات بالتلبية، ويرمز هذا النداء للحاجة، والوحدة.
يشير إلى وعد قطعه الزمان على الشاعر بعودة العزة إلى وطنه، واليوم يتحد أبناء الوطن ولا يفرق بينهم أي اختلاف، واستخدام التركيب: “ننفض الجمر من خلال الرماد”، يشير إلى إعادة الحياة من رماد الاحتراق، أي أن أبناء الوطن لا يستسلمون، فالعودة بعث للروح وإحياء للعلاقة بين أبناء الوطن وأرضه، بالإضافة إلى الإشارة إلى استمرار مشاعر الشوق والحب والاعتزاز، رغم “رماد” الغربة والفقد، فالوطن حي في وجدان الشاعر، وكل أبنائه.
هاك ملهى الصبا فيا قلب لملم ذكرياتي على ضفاف الوادي
صفّقت بالجناح مستطلعات طلع أوكارها الطيور الشوادي
علّها تستشف من خلل الأظلال أظلال غابر الأعياد
يوم أغشى الرياض في الليلة القمراء وثبًا بين الربى والوهاد
شاردًا أنشد النجوم وفي جفني مائي وبين جنبي زادي
تشكل الأبيات السابقة لوحة لذاكرة الشاعر، لأيام الصبا والشباب في ربوع الوطن، إذ كان سعيدًا مستبشرًا بالمستقبل وباحثًا عن السعادة، في المقطع السابق تشارك الطبيعة الشاعر في مشاعره وتصبح جزءًا متفاعلًا مع الفضاء الذي يرسمه والذي يعبر عن شعوره في تلك المرحلة باستخدام الدوال: “صفقت بالجناح، الطيور الشوادي، الليلة القمراء”، هذا التوظيف يشير إلى انعكاس حالته الوجدانية على الطبيعة، فتصبح الطيور الشوادي مصفقة تبحث عن الأعياد السابقة التي غبرت، وها هي اللية قمراء في دلالة على الصفاء والنقاء الذي كانت تعيشه الذات في جولاتها في أرض الوطن في ذلك الزمن، فكان تلك الليالي أعياد، فكل يوم في الوطن عيد، وكل يوم بعيد ألم عميق.
وتعكس المقطوعة صورة الذات التي اقترنت بالوادي، على ضفافه تركت الذكريات، استخدمها الشاعر؛ ليصف نفسه في تلك المرحلة “وبين جنبيَّ زادي” ويحمل هذا التركيب دلالة الحب الذي كان يقتات عليه، والقرينة الدالة هي “بين جنبي” فما يوجد بين الجنبين هو الذكريات والحب والراحة، وهذا ما وصفت فيه الذات في هذا المقطع.
بالتي تقطف النجوم يداهــــــــا ثم ترمي بهن تحت وسادي
بفتاة كأن أجنحة الشحـــــــرور كحلن عينهـــــــــــــــــا بالســـــــــــواد
نقلي يا يد النسيم على أهدابها – السود ريشــــــــــة الــــــــــــعوّاد
إن أهدابها بقيّات أوتاري – شُدَّت إلــــــــــى بقايا فؤادي
يصف المقطع فتاةً أحبها الشاعر، تظهر عليها صفات الرقة، إنها فتاة عربية والقرائن دالة: “كحلن عينها بالسواد، أهدابها السود”، فالأهداب السوداء والعين السوداء الكحيلة صفات جمال عربي، وأنوثة طاغية، إذ يرتبط وجدان الشاعر بمحبوبة وبأرض، فكانت هذه الفتاة لرقتها ونعومتها سلبت لب الشاعر، وأصبح الفؤاد مولعًا بها، وجعل من نفسه عازفًا وأهدابها أوتار له، وهذا يدل على تعلقه بها، وحلول صفاته الجميلة بحضورها، فيصبح عازفًا غارقًا في عينيها.
الإشارة إلى فتاة أحبها الشاعر بصفات عربية، دلالة على ارتباطه بالوطن، وتعلق روحه بلبنان وحبيبته العربية، ذات الجمال الملفت، والتي ترمز هنا إلى العلاقة الوثيقة بينه وبين مكانه الأول، وعشقه الأول.
نشط الشوق للإياب ونادى باسم لبنان في الضلوع منادي
كيف لبنان والمُغَنُّوهُ كثر لم تصفق ضاجتاه لشادي
ربَّ داءٍ يحزُّ لبنان في الصلب ولبنان مبرأ الرواد
أمن العائدين أنت إليه عمرك الله أم من العواد
قرب الشط فليقلّك بين الموج والشوق هودج متهادي
هذه في الفضاء أعلام لبنان على غرة الصباح بوادي
يغمر الفجر منكبيها فتنكب عليه مشبوحة الأعضاد
قمم صدَّعت على الأفق بحرًا هائج اللجِّ صاخبَ الإزباد
تشرئب الجبالُ منه فهلّا ولد البحر من جديد بلادي
تظهر جليةً، في هذا المقطع، صورة الشوق إلى الوطن لبنان، ورغبة الشاعر في العودة إلى وطنه موظفًا دوالًا تشير إلى حالة الشوق: “نشط الشوق، الإياب، منادي، في الضلوعه، المغنوه، أمن العائدين، أم من العواد، فليلقيك بين الموج والشوق”، هذا التوظيف يظهر شعور الذات بالحنين، وبصدق رغبتها في العودة إلى الأرض الوطن، ويشكل نتيجة حتمية للمقاطع الشعرية السابقة التي أشارت إلى ذكريات الذات، والمحبوبة العربية، والآن ينتقل للحديث عن الشوق والرغبة في العودة.
لكن هذه العودة ليست يسيرة سهلة، يظهر هذا من خلال توظيف “قرب الشط فليقلك بين الموج والشوق هودج متهادي” والقرينة الدالة الموج، الذي يرمز إلى الغموض والمغامرة، فالعودة تحتاج إلى ركوب المخاطر، والسير نحو المجهول كما يرى الشاعر.
ولكن القوة التي تشد الشاعر وتجيب سؤال المتسائل، إنها الشوق للوطن، لكنه يعود ويقدم قرائن دالة على تفاؤله بلبنان في قوله: “هذه في الفضاء أعلام لبنان على غرة الصباح بوادي” فالعلامات: “أعلام لبنان، غرة الصباح، بوادي”، تحمل دلائل وحدة لبنان وصموده في وجه التحديات التي عصفت به، والتي أشار إليها: “رب داء يحز لبنان في الصلب ولبنان مبرأ الرواد”، إن علامة “الداء” تشير إلى المشاكل السياسية والحروب، ولكن لبنان قوي قادر على الصمود أمامها والتصدي لها، وهذا ما أكدته الأعلام في الفضاء، وعاد ليشير له في قوله “يغمر الفجر منكبيها فتنكب عليه مشبوحة الأعضاد” وهذا وصف قوي للفجر الذي يعني البداية الجديدة للبنان التي طالت كل شيء، فعاد لبنان قويا منيعا وصامدا من جديد.
ينهي الشاعر هذا المقطع بصورة الوطن الذي يولد ويبعث من جديد، من خلال قوله: “تشرئب الجبال منه فهلا ولد البحر من جديد بلادي” فبعد أن كان الموج رمزًا للمغامرة والغموض أصبح البحر رمزًا للولادة الجديدة، وهذا يتوافق مع المعنى الذي يريد الشاعر إثباته في هذا المقطع، يولد الوطن من رحم الصعاب.
موطني ما رشفت وردك إلا عاد عنه فمي بحرقة صادي
في قلوب المغربين جراح حملوها على الجباه الجعاد
لا تلمهم فيوم هجرك كانوا وعذارى العلى على ميعاد
يوم دقوا سواحل الشرق بالغرب ولم يهدهم سوى العزم هادي
كلما احتكت المجاذيف شعَّ الأفق منهم بكوكب وقاد
وزعتهم كف الرياح فهلا جمعتهم يد النسيم الهادي
غصص الأمهات ما هي إلا ذمم في خفارة الأولاد
حان أن يخنقوا الشراع ويطووا علم الفتح بعد طول جهاد
ذهب الأرض، يعلم الله، ما – يعدله غير تربة الأجداد
ينقل هذا المقطع صورة مؤثرة لمعاناة المهاجر، فهو لا يكتفي بعرض صعوبة الرحيل، بل يمتد ليكشف عن المأساة العميقة التي تلحق أبناء الوطن، من آباء وأبناء على حد سواء. تجربة الهجرة هنا تظهر قاسية ومؤلمة، وتعكس مشاعر الغربة والحرقة التي يعيشها الشاعر، كما يتجلى ذلك في علامات دالة استخدمها، مثل: “بحرقة صادي”، و”في قلوب المغتربين جرح”، و”الجباه الجعاد”.
يشير هذا التوظيف الرمزي إلى ألم الغربة الذي يتذوقه الشاعر في كل مرة يتذكر فيها وطنه، حيث يعكس الحالة الوجدانية وغياب الاستقرار النفسي، والحرقة التي تؤلم القلب. يرافق هذا الشعور المهاجر منذ ابتعاده عن الوطن، فقلوب المغتربين تحمل جراحًا عميقة لم تشفها الأيام. والدلالة على ذلك واضحة في عبارة “حملوه على الجباه الجعاد”، فهي تشير إلى أن الغربة والحنين تجعل الإنسان يشيخ مبكرًا وتظهر آثار الزمن على جبينه، كما تؤكد طول المدة التي عانى فيها المهاجرون من الغربة، حتى أصبحت سماتها واضحة على وجوههم. اختيار “الجباه” هنا رمز للوضوح؛ فالجرح النفسي النازف في القلوب صار ظاهرًا للعيان.
يتوجه الشاعر بخطابه إلى لبنان فيقول: “لا تلمهم فيوم هجرك كانوا وعذارى العلى على ميعاد”، مشيرًا إلى أن هؤلاء الشبان اضطروا للهجرة، وكانوا يحملون في قلوبهم أحلامًا بالرفعة والعلو. ويصف الشاعر حالة المهاجرين عند رحيلهم بقوله: “يوم دقوا سواحل الشرق بالغرب ولم يهدهم سوى العزم هادي”، و”كلما احتكت المجاذيف شع الأفق منهم بكوكب وقاد”، موضحًا الحلم بالتغيير والحرية والآمال التي تلوح في الأفق.
إلا أن الغربة لم تكن حانية، بل كانت قاسية مقارنة بحنان الوطن، كما يوضح البيت: “وزعتهم كف الرياح فهلا جمعتهم يد النسيم الهادي”، حيث تظهر الثنائية الرمزية بين “الرياح” و”النسيم”، دلالة على التشتت والعذاب في الغربة مقابل الأمن والطمأنينة في الوطن.
ولا يقتصر الألم على المهاجرين فقط، بل يمتد إلى أهاليهم، كما يذكر الشاعر: “غصص الأمهات ما هي إلا ذمم في خفارة الأولاد”، مشيرًا إلى معاناة الأمهات وحرقة القلوب والفقد الذي يتركه الغياب، فالزمن يمضي في وحدة وألم، وتظل الهجرة مصحوبة بخسائر معنوية. ويضيف الشاعر دلالة رمزية على نهاية رحلة المهاجرين، حيث يقول: “حان أن يخنقوا الشراع ويطووا علم الفتح بعد طول الجهاد”، فيرمز “الشراع” إلى مسار السفر نحو الأحلام، و”علم الفتح” إلى المستقبل المشرق الذي رغبوا في الوصول إليه، بينما “طول الجهاد” يدل على التضحية والمعاناة والفقد. استخدام الأفعال مثل “يخنقوا”، و”يطووا”، يعزز دلالة النهاية والاغتراب والفقد.
ويختتم الشاعر مقطعه بتأكيد قيمة الوطن، حين يقول: “ذهب الأرض، يعلم الله، ما – يعادله غير تربة الأجداد”، ليجعل من أرض الوطن الثابتة، التي تحمل تاريخ الأجداد، أثمن من كل كنوز الأرض، مؤكدًا على أن الوطن لا يعوضه شيء، مهما كانت المغريات والآمال في الغربة.
يالطودٍ أعناقه آخذاتٌ بجبال شم من الأمجاد
هو لبنان هب بنيه سيوفا تلفظ الروح وهي في الأغماد
هبه مستضعف الجناب فلم يفخر بماض ولا ازدهى بتلاد
أو فهبه كما تشاء فحسبي أن لبنان خفقة في فؤادي
هذا المقطع يحمل بعدًا وطنيًا صادقًا، فهو تصوير شعري لوطن يرتفع شامخًا رغم التحديات، ويبرز ارتباط الشاعر العاطفي والوجداني بلبنان، ويبدأ المقطع بوصف “الطود”، أي الجبال الشاهقة، باعتبارها رمزًا للعزة والثبات، فيقول: “يالطودٍ أعناقه آخذاتٌ بجبال شم من الأمجاد”، إذ يوحي الدال “أعناقه آخذات” بدلالة الارتفاع والسمو، بينما “جبال شم من الأمجاد” تشير إلى تاريخ لبنان العريق ومجده السابق، ليضع الشاعر الوطن في موقع البطولة والتاريخ.
ثم ينتقل إلى دعوة وطنية واضحة: “هو لبنان هب بنيه سيوفا تلفظ الروح وهي في الأغماد”، في دلالة على شجاعة أبناء الوطن واستعدادهم للتضحية، فـالتركيب “تلفظ الروح وهي في الأغماد” تعبير عن الاستعداد للتضحية بالنفس في سبيل حماية الوطن، وهذا يعكس روح المقاومة والفداء.
ويشير الشاعر إلى وضع لبنان في الماضي والحاضر بقوله: “هبه مستضعف الجناب فلم يفخر بماضٍ ولا ازدهى بتلاد”، فيظهر شعورًا بالحزن أو الانتقاد للوضع الحالي، حيث يرى أن لبنان لم يعد يتباهى بماضيه المجيد ولا يزدهر كما كان، وهو تقييم واقعي يعكس مأساة الاستضعاف.
ويختتم المقطع بتأكيد الانتماء والارتباط العاطفي بالوطن: “أو فهبه كما تشاء فحسبي أن لبنان خفقة في فؤادي”، فالمهم عند الشاعر ليس موقف لبنان السياسي أو المجد المادي، بل أن يبقى لبنان حيًا في قلبه، كنبض مستمر للوفاء والحب الوطني، إن المقطع يظهر ثنائية بين المجد التاريخي والاستضعاف الحالي، لكنه يتركز على الحب العاطفي والولاء للهوية الوطنية، مستخدمًا رموزًا مثل الجبال، والسيوف، والقلوب لتجسيد الانتماء والقوة.
بهذا يتختتم الشاعر قصيدته معبرًا عن حبه لوطنه، ومعاناته في الغربة من خلال مجموعة من المقاطع يحمل كل واحد منها دلالة مختلفة، وتشكل في مجملها صورة الألم والفقد والشوق والفخر في آن واحد، لتعكس حال الشاعر، وجلال الوطن، فالوطن باقٍ خالدًا شامخًا بماضيه وتاريخه، وتحديه للصعاب، والمهاجر خاسر وحيد فاقد للحياة والحب، فالوطن لا يقدر بأي ثمن يدفع.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .