12:57 مساءً / 1 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

فلسطين ، من التضامن إلى أفق الدولة وإدراك السيادة ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني

فلسطين… من التضامن إلى أفق الدولة وإدراك السيادة ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني


تنهض الأرض الفلسطينية في صمتها الكثيف كمن يستدعي ضمير العالم إلى امتحان غير معلن: ماذا يبقى من روح شعب حين تنسحب الشرائع، وتنكسر مرايا العدالة، ويُترك الجسد الجمعي عارياً في مواجهة العراء الدولي؟ في غزة المحاصرة بالنار، كما في الضفة بما فيها القدس، وفي كل مخيم امتدت فيه الذاكرة كجذر يبحث عن بداية جديدة، يتجلّى سؤال الإنسان وقدرته على الحفاظ على صورته رغم الانكشاف الشامل. ليس المشهد مواجهة مادية فقط، بل اختبار لطبيعة العلاقة بين الأرض ووعي من يسكنها: كيف ينتظم الفلسطيني في زمن يتداعى فيه العالم من حوله، وتُترك حقيقته معلّقة بين شواهد مهدّمة ومسارات بحث لا تنتهي؟


من هنا يتسرّب التاريخ عبر الوجوه، ويُعاد ترتيبه في تفاصيل الحياة الصغيرة؛ في طفل يجري في الأزقة، وفي حجر يحفظ ظلال البيوت، وفي خطوة تصعد درجات المسجد الأقصى، وفي خيمة تُرفع في مخيم يحمل ذاكرة شعب بأكمله. تتقاطع الأزمنة في فلسطين بحيث تصبح التجربة الإنسانية مختبراً دائماً لإعادة اكتشاف معنى الكرامة والسيادة والانتماء، وتتشابك مع التزامات المجتمع بالتعليم والثقافة والشراكة المجتمعية.


أولاً: الوعي كبنية تشتبك مع الزمن


يتشكّل الوعي الفلسطيني كنسيج يمتدّ عبر المكان واللغة والجسد، لا كتجريد، بل كخبرة تُعاد صياغتها كل يوم. هو وعي لا يستسلم للصدفة؛ بل يتغذّى من المعايشة العميقة بين الماضي والمستقبل. وفي غزة — حيث اختُبرت حدود الصمت الدولي — تحوّل هذا الوعي إلى مساحة لإعادة تعريف الإنسان، ليس بوصفه ضحية، بل بوصفه صاحب سرديته، القادر على حماية صورته من التلاشي. وفي القدس، حيث تتقاطع السماء بالحجر، وفي الضفة التي تتقاطع فيها الطُرق المقطّعة بالأسوار، يتجلّى الإصرار على الزمن كفعل بقاء واعٍ، لا كمرور عابر.
هذا الوعي لا يُختزل في الألم ولا يُقاس بالدمار، بل يتشكّل عبر قدرة الفلسطيني على تحويل الفوضى إلى معنى، والغياب إلى حضور، والتشظّي إلى سردية متصلة. وكل ذلك دون أن يسقط في التكرار أو الاستهلاك، بل بوصفه عملية دائمة لإعادة اكتشاف ذاته وسط عالم يطالب منه أن يبرّر وجوده كل يوم. ويمتزج الوعي هنا مع التعليم والثقافة والشراكة المجتمعية، لتصبح تجربة الحياة اليومية حاضنة لكل هذه العناصر، ورافعة للبناء الوطني.


ثانياً: التعليم والثقافة والشراكة المجتمعية بوصفها هندسة للقدرة الوطنية


لا يمكن للوعي أن يستمر دون البنية التي تحمله. هنا تظهر التربية والثقافة بوصفهما ليسا مسارين معرفيين فحسب، بل رافعتين لبناء قدرة جماعية على صياغة مستقبل مختلف. فالتعليم الفلسطيني — في غزة والضفة والقدس ومخيمات اللجوء — يخوض معركته الخاصة: حماية الذاكرة، وتحصين الهوية، ومنع التآكل الداخلي الذي قد تُحدثه الأزمات.


إن المدرسة والجامعة والمسرح والمكتبة ليست مساحات تلقين أو ترف، بل منصات لإعادة تشكيل صورة الشعب عن ذاته؛ هي فعل سيادة يومي، وهي ركيزة الشراكة المجتمعية التي تجعل الكلّ الفلسطيني — في الداخل والشتات — جزءاً من مشروع واحد. الثقافة ليست إنتاجاً رمزياً فقط، بل نظاماً للحفاظ على الحيوية الأخلاقية والمعرفية للشعب، وتوليد لغة جديدة لا تستسلم للصور النمطية ولا للمفردات المستهلكة، لغة تحفظ القدرة على التقدّم دون التفريط بجوهر الحلم.


الشراكة المجتمعية ليست شعاراً؛ بل ضرورة وجودية. عندما يصبح البيت مدرسة، والشارع منبراً، والمسجد والكنيسة نقطتي التقاء، يتحوّل المجتمع إلى شبكة حماية متكاملة تحافظ على استمرارية الوعي حتى حين تتداعى البنى السياسية، وتحمي كل مشاريع البناء الوطني بما فيها مشروع حق العودة الذي يربط اللاجئين بالوطن الأم.


ثالثاً: العالم المتداعي، السيادة المُمتحنة، والحلم المُعاد صياغته


يكشف اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني حدود الأخلاق الدولية، ويظهر الشرخ العميق في النظام الدولي. غزة، الضفة، القدس، والمخيمات، كلّها اختبرت هشاشة المنظومة التي تدّعي حماية الإنسان. لم يكن الفلسطيني بحاجة إلى درس جديد، لكن العالم كان بحاجة إلى مرآة تُظهر انفراط منطق القوة حين يتراجع التضامن إلى بيانات باردة، وتُترك النساء والأطفال تحت الأنقاض بلا حماية أو قرار.


في هذا الانكشاف، يتجلّى معنى السيادة: ليست سيادة الأرض وحدها، بل سيادة السرد، وسيادة الوعي، وسيادة القدرة على الحفاظ على وجه الشعب في عالم يسهُل فيه تشييء الإنسان. واللاجئون، بامتدادهم التاريخي، يمثلون قلب هذا الحقل السيادي؛ فهم الذاكرة الحيّة، وحق العودة ليس مجرد مطلب سياسي، بل استعادة للزمن المسلوب، وتأمين استمرارية هوية الشعب في الداخل والخارج، وتأكيد على أن الكل الفلسطيني شريك في السيادة والمعنى.


تظل الضفة والقدس مختبري السيادة اليومية: في حماية المكان، في التعليم، في اللغة، وفي الدفاع عن مستقبل لم يولد بعد. ويمتزج كل هذا مع الثقافة والشراكة المجتمعية في شبكة متكاملة، تجعل من كل فعل يومي لبنة في مشروع الدولة الفلسطينية المستقبلية، الدولة المستقلة الكاملة السيادة، والقدس عاصمتها.
رابعاً: زمن تُعاد فيه صياغة الحياة


في مجموع هذه التجارب، يتّضح أن فلسطين ليست مجرد جغرافيا جرح، بل جغرافيا إعادة خلق. كل خطوة تُقطع في الأزقة، كل درس يُكتب في مدرسة مهدّدة، كل نص ثقافي يُنتج في مدينة تحت الحصار، وكل مخيم يحافظ على ذاكرته، هو لبنة في مشروع وطني يُعاد بناؤه بعيداً عن الشعارات، وقريباً من الإنسان.


التضامن الحقيقي لا يُقاس بكثرة الكلمات، بل بقدرة العالم على احترام هذا الجهد العميق لإعادة صياغة المستقبل. وفي قلب هذه الرحلة يقف الحلم الفلسطيني — دولة فلسطينية مستقلة، كاملة السيادة، والقدس عاصمتها — لا كغاية سياسية فقط، بل كخلاصة فعل إنساني عابر للأجيال، تتداخل فيه التربية بالثقافة، والوعي بالفعل، والهوية بالزمن.


كما يصبح حق العودة امتداداً حيّاً للذاكرة والهوية، ورافعة لإعادة توحيد الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، فيما يشكل حق تقرير المصير ضمانة حقيقية لسيادة الشعب على قراره، وإمكاناته في بناء المستقبل وفق إرادته المستقلة. هذان الحقان، جنباً إلى جنب مع التعليم والثقافة والشراكة المجتمعية، يشكّلان العمود الفقري للحلم الفلسطيني، ويحوّلان كل يوم صمود إلى خطوة نحو استعادة الكرامة والوجود.


ختامًا، تتقدّم فلسطين في الزمن، لا كجُرح مفتوح، بل كلوحة تنبض بالحياة، تتراكم فيها القدرة على الصمود، ويُعاد فيها نسج معنى السيادة، وتنتصر فيها الرواية الخالدة لشعب يمتلك أدواته التعليمية والثقافية والمجتمعية ليصوغ مصيره بيديه. في كل يوم صمود، يُكتب درس جديد في الوعي، الحرية، حق العودة، حق تقرير المصير، وتجذر السيادة، لتصبح الحياة نفسها مرآةً لإرادة الأمة ووعيها المستمر.

شاهد أيضاً

الائتلاف يسرع المداولات حول مشروع قانون تجنيد الحريديين

شفا – تعقد لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإثنين، وبعد غد ثلاثة اجتماعات للتداول في …