11:22 مساءً / 31 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

بين موت المربّي وميلاد ناقل الرسالة : المعلم وهوّة فلسفته الوجودية ، بقلم : نسيم قبها

بين موت المربّي وميلاد ناقل الرسالة : المعلم وهوّة فلسفته الوجودية ، بقلم : نسيم قبها

بين موت المربّي وميلاد ناقل الرسالة : المعلم وهوّة فلسفته الوجودية ، بقلم : نسيم قبها

بين وصف المعلم كناقل رسالة ، أو مربّي ، أجد أن المسألةُ ليست مسألةَ اصطلاحٍ نتحرّى دقّته، أو لفظٍ نتفنّن في اجتلاء مرادفاته. إنها هُوّةٌ وجوديةٌ تفصل بين تصوّرين لماهية الفعل التعليمي التعلمي ، بل ولماهية الإنسان نفسه. فالقول بأن “المعلم ليس مربياً، وإنما ناقلُ رسالة” ليس تقليلاً من شأن المعلم، بل هو تحديدٌ جذريٌ لطبيعة علاقته بالمتعلّم وبالعالم. إنه تحريرٌ للمعلم من أعباءٍ ميتافيزيقية لم يعد بمقدوره – ولا من حقه – أن يحملها في زمن انحسرت فيه اليقينيات وتعدّدت المراجع.

المُربّي، في تصوّرنا التراثي المتوارث، هو ذلك الحكيم الذي لا يقتصر عمله على بثّ المعارف، بل يتعدّاها إلى تشكيل الأخلاق، وصوغ الشخصية، وبناء النسق القيمي للفرد. هو بمثابة “الوالد الروحي” الذي يمتلك رؤيةً كليةً للحياة الصالحة، ويسعى إلى تنشئة الفرد وفق هذه الرؤية. هذا النموذج يستمدّ شرعيته من مجتمعات مغلقة، تسودها مرجعية واحدة، وتتّجه نحو غايات متّفَق عليها. هنا، يكون المُربّي تجسيداً لهذه المرجعية ووكيلاً عنها.

أما في عالمنا المعاصر، عالم العولمة ، وانزياح المراكز، وتفكّك السرديات الكبرى، فأيُّ مُربٍّ هذا الذي نتحدّث عنه؟ وأيَّةُ قيمٍ مطلقةٍ يملكها ليقوننها في نفوس طلابه؟ لقد أصبح “المربّي” بهذا المفهوم كائناً مستحيلاً، لأن شرطه الأساسي – وجود الحقيقة الواحدة – لم يعد قائماً. محاولةُ الاضطلاع بهذا الدور اليوم هي ضربٌ من العبث أو الاستعلاء، لأنها تعني افتراض أن المعلم يمتلك “الحقيقة” بينما المجتمع من حوله يعجّ بتعدّدية لا تنكر.

من هنا، تأتي ضرورة الانتقال من نموذج “المربي” إلى نموذج “ناقل الرسالة”. ولكن أيّة رسالة؟

إنها ليست رسالةً جاهزةً مُعلّبة، يحملها المعلم كساعي بريد ليُسلمها للمتلقّي. كلا. إنها “الرسالة” بمعناها الهرمينوطيقي، أي ذلك التراث الفكري والإنساني الهائل الذي خلّفته لنا الأجيال. المعلم هنا هو وسيطٌ – وليس منشئاً – بين المتعلّم وهذا التراث. مهمته لا تكمن في تفسير العالم نيابةً عن الطالب، بل في تسليحه بأدوات التفسير. هو لا يعلّم “ما يجب التفكير فيه”، بل “كيفية التفكير”. إنه يشبه القيّم على متحفٍ ضخمٍ للحضارة الإنسانية، لا يفرض على الزائر لوحةً بعينها للتأمل، بل يفتح له الأبواب، ويشرح له خلفية كل معرض، ثم يتركه ليصنع حواره الخاص مع المعروضات.

هذا التحوّل من “المربي” إلى “ناقل الرسالة” يحمل في طياته تحريراً للمتعلّم أولاً. فهو ينتزعه من وضعية “الوعاء الفارغ” الذي يُملأ، أو “المادة الخام” التي تُشكّل، ليضعه في وضعية “الذات المفكّرة” الحرة، المسؤولة عن بناء معناها الخاص للعالم. المعلم، بهذا المعنى، لا ينتج أتباعاً، بل ينتج عقولاً ناقدةً قادرةً على المساءلة، حتى مساءلته هو نفسه.

إن قيمة المعلم-ناقل-الرسالة لا تكمن في كمّ المعرفة التي يختزنها، بل في براعة الطريقة التي يقدّمها بها. إنه ساحرٌ يفتح الأقفال، لا حارسٌ للأبواب الموصدة. هو من يثير الأسئلة المقلقة، ويعرّف الطالب على خصومه الفكريين، ويشعره بضآلة المعرفة البشرية أمام سعة الوجود. في هذا الفضاء من الشك المنهجي والحوار الحرّ، تُبنى الشخصية الحقيقية، ليس كنسخة مكررة عن المعلّم، بل ككيان فريد قادر على اقتحام عالمه بجرأة المُستكشف.

ولأختصر ، لم يعد دور المعلم أن يكون نبراساً يضيء الطريق، بل أن يكون من يسلّط الضوء على البوصلة التي يحملها كل طالب في داخله، ثم يتركه ليختار طريقه بنفسه. إنه يتنحّى عن عرش “المربي” الإلهي، ليقف في تواضع العارف بحدود معرفته، شاهداً على عظمة الرسالة التي ينقلها، ومحتفلاً بتفرد كل من يأتي ليستلمها ويصنع منها عالمه الخاص. في هذا “الموت” الظاهري لدور المربي، تولد أسمى أشكال التربية: تلك التي تحرر الذوات كلّها.

  • – نسيم قبها – باحث في الشأن التربوي
    الإئتلاف التربوي الفلسطيني
    الحملة العربية للتعليم

شاهد أيضاً

الاتحاد الفلسطيني لكمال الأجسام واللياقة البدنية ينظم بطولته المركزية في بيت لحم

الاتحاد الفلسطيني لكمال الأجسام واللياقة البدنية ينظم بطولته المركزية في بيت لحم

شفا – نظم الاتحاد الفلسطيني لكمال الأجسام واللياقة البدنية، اليوم الجمعة، بطولته المركزية السنوية، في …