12:21 صباحًا / 26 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

غزة بين الاحتلال الدولي والهيمنة الإسرائيلية ومستقبل حلّ الدولتين ، بقلم : المهندس غسان جابر

غزة بين الاحتلال الدولي والهيمنة الإسرائيلية ومستقبل حلّ الدولتين ، بقلم : المهندس غسان جابر

غزة بين الاحتلال الدولي والهيمنة الإسرائيلية ومستقبل حلّ الدولتين ، بقلم : المهندس غسان جابر

في الشرق الأوسط، حين تهبّ رياح السياسة، تكون غزة البوصلة التي تحدد اتجاه العاصفة. صغيرة المساحة، لكنها في المعنى قارةٌ من الوجع والمقاومة والرمز. فغزة ليست مجرد مدينة فلسطينية، بل مرآة مكشوفة لضمير العالم، ولمنظومةٍ سياسيةٍ تتحدث عن العدالة وهي تمارس الظلم بأدق أدواته.


ومنذ أن سكتت المدافع في الحرب الأخيرة ولم يسكت صداها، بدأ مشهد جديد يتشكل — مشهدٌ لا يشبه هدنةً ولا تسويةً، بل نموذج إدارةٍ دوليةٍ بوجهٍ إنسانيٍّ ولسانٍ إسرائيليٍّ فصيح.

أولًا: الإدارة الدولية… احتلالٌ ناعم بأدوات دبلوماسية

من واشنطن إلى بروكسل، يُطرح مشروع “الإدارة الدولية المؤقتة” لغزة باعتباره حلاً وسطًا بين رفض إسرائيل عودة حماس، ورفض العالم استمرار الحصار. لكن ما يبدو حلاً إنسانيًا يخفي في جوهره استعمارًا منضبطًا.


فالأمم المتحدة وبعض الدول العربية سيُكلَّفون بالإشراف على إدارة القطاع، بينما تحتفظ إسرائيل بحقّ المراقبة الأمنية والسيطرة على الأجواء والمياه والمعابر.


يبدو الأمر كأنه تقاسم للمسؤولية، لكنه في الحقيقة تقاسم للهيمنة: تل أبيب تملك القرار، والمانحون يملكون المال، والفلسطيني لا يملك سوى الانتظار.

هذه ليست خطة لإعمار غزة، بل لإعادة هندستها سياسيًا.


هي صيغة جديدة للاحتلال، تتيح لإسرائيل أن تراقب دون أن تُدان، وأن تتحكم دون أن تُحاسَب، وأن تبقى ممسكة بكل الخيوط بينما يظهر العالم بمظهر المنقذ.

ثانيًا: الهيمنة الإسرائيلية بلغة جديدة

تعلمت إسرائيل من تجاربها الطويلة مع غزة أن النصر العسكري لم يعد هدفًا ممكنًا، وأن السيطرة المستدامة لا تحتاج إلى جندي على الأرض بقدر ما تحتاج إلى شبكة نفوذٍ تُخنق من بعيد.


فبعد الحرب الأخيرة، أعادت إسرائيل تعريف مفهوم “الأمن القومي”: ليس المهم احتلال غزة، بل التحكم في إيقاعها.
السماء لها، البحر لها، الاقتصاد مراقَب، والمساعدات تمرّ عبر بواباتها.
الاحتلال لم يعد جرافةً ولا حاجزًا، بل حسابًا بنكيًا ومعادلةً أمنية.
وهكذا تحوّلت غزة إلى منطقة “مراقبة ذاتية”، تُعاقَب جماعيًا إذا رفعت صوتها، وتُكافأ بفتاتٍ إن صمتت.

إنه استعمارٌ بلا خوذات، تحكمه البنوك بدل البنادق، والرقابة بدل الرصاص.

ثالثًا: الفصائل الفلسطينية… أزمة المشروع والشرعية

وسط هذا المشهد المعقد، تقف الفصائل الفلسطينية في امتحانٍ لم تعرف مثله من قبل.
حماس خرجت من الحرب مثخنة بالجراح لكنها ما زالت تمسك بأوراق الميدان، غير أن قوتها العسكرية لا تكفي لتجاوز حصارٍ سياسي دولي يراد له أن يعزلها نهائيًا.


أما السلطة الفلسطينية، التي تتحدث عن “حلّ الدولتين” كما لو أنه لا يزال حيًا، فتبدو عاجزة عن العودة إلى غزة أو استعادة ثقة الشارع.
وبينهما، يعيش اليسار الفلسطيني في أزمة وجودية: شعارات كبرى بلا أدوات تنفيذ، ومواقف صلبة بلا جمهور.

غزة اليوم ليست مجرد ملف أمني؛ إنها ميدان صراع على الشرعية الوطنية، تتنافس فيه الفصائل على تمثيل شعبٍ يعرف أن التمثيل الحقيقي لا يُمنح، بل يُنتزع بالإرادة والعمل.

رابعًا: حلّ الدولتين… الوهم المتجدد

في الوقت الذي يُدار فيه الحديث عن الإعمار، تُصاغ على الأرض خرائط جديدة تُصفّي فكرة الدولة الفلسطينية الواحدة.
الاستيطان في الضفة يتسارع، ومناطق “ج” تُبتلع بالكامل، والقدس تُفصل عن محيطها، بينما تُدفع غزة إلى مسارٍ دوليٍّ منفصلٍ عن الضفة.


بهذا، يتحوّل “حلّ الدولتين” إلى أسطورةٍ دبلوماسية تُستعمل لتجميل واقعٍ استعماريٍّ متجذر.
كيف يمكن الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة إذا كانت غزة تحت وصايةٍ دولية، والضفة تحت استعمارٍ مباشر، والقدس خارج كل الحسابات؟
لقد نجحت إسرائيل في تحويل القضية من ملف تحررٍ وطني إلى مسألة إدارةٍ إنسانية، ومن صراعٍ على الوجود إلى نقاشٍ حول شروط المعيشة.

خامسًا: العالم العربي… من معادلة الحل إلى معادلة التهدئة

العواصم العربية الكبرى تراقب المشهد بعيونٍ منهكة.


بعضها يرى في الإدارة الدولية لغزة مخرجًا من الانفجار، وبعضها يخشاها بوصفها شرعنةً لتفكيك القضية.
لكن الدور العربي، في جوهره، بات وظيفيًا لا سياديًا؛ يُستدعى للمساعدة المالية أو الأمنية لا للمبادرة السياسية.
العرب الذين كانوا يومًا ركيزة المشروع الوطني الفلسطيني، أصبحوا اليوم وسطاء تهدئةٍ في صراعٍ على وطنهم.
وهكذا تحوّلت غزة إلى ميدان تنافسٍ إقليمي بين القاهرة والدوحة وأنقرة، بينما يغيب صوت الفلسطيني الذي يدفع الثمن وحده.

سادسًا: حرب الزيتون… وجه آخر للاحتلال

في الضفة الغربية، لا تحتاج الحرب إلى دباباتٍ لتُدار.


يكفي أن تراقب موسم الزيتون لتعرف أن الاحتلال ما زال هنا.
هناك، يقف الفلاح الفلسطيني بين بندقية المستوطن وجدارٍ يسدّ الأفق.
فتيات التلال يهاجمن المزارعين تحت حماية الجنود، يسرقن الثمار كما تُسرق الأرض، ويضحكن أمام الكاميرات باسم “الحق التوراتي”.


لكن الفلسطيني يعود في اليوم التالي، يحمل سلّته من جديد، لأن الزيتونة ليست شجرةً عادية، بل وثيقة ملكيةٍ أبدية للأرض.

هذه الحرب الصامتة — حرب الجذور — هي أخطر من كل المدافع، لأنها تهدف إلى اقتلاع الذاكرة من التراب.
لكن الفلسطيني الذي زرع زيتونه قبل سبعين عامًا لا يزرعه اليوم من أجل الزيت، بل من أجل أن يقول للعالم: “أنا هنا… لم أُغادر.”

سابعًا: إسرائيل… القوة التي تخاف نفسها

إسرائيل التي تبدو في أوج قوتها تعيش في أعمق مخاوفها.
انتصاراتها العسكرية لم تمنحها أمانًا، بل أوهامًا جديدة من التفوق والخوف.


كل قذيفة تطلقها على غزة تذكّرها بأنها لا تملك سلامًا مع ذاتها، وكل مستوطنة تُبنى في الضفة تكشف أنها دولة تحتمي بالقوة لأنها فقدت الثقة بالشرعية.
إنها دولة تملك السلاح كله لكنها تفتقر إلى اليقين، وديمقراطيةٌ تُخنق حين تصل إلى حدود الفلسطيني.

ثامنًا: ما بعد الحرب… بين الأنقاض والرؤية

حين تتجول في غزة اليوم، ترى في لحظةٍ واحدة الموت والحياة معًا.
ركامٌ يملأ الطرقات، وأطفالٌ يلعبون فوقه كأنهم يعلنون انتصارهم على الفناء.


كل بيتٍ مهدّمٍ هو سطرٌ جديدٌ في رواية الصمود الفلسطيني، وكل مدرسةٍ تُفتح رغم الدمار هي بيانٌ عملي ضد اليأس.
هنا يكمن جوهر القضية: شعبٌ يُهدم بيته في المساء ليبنيه في الصباح، لا لأنه ينسى، بل لأنه يؤمن أن الحياة شكلٌ من أشكال المقاومة.

تاسعا: فلسطين لا تُدار، بل تُستعاد

تبقى غزة السؤال الذي يربك الجميع: من يملك القرار فيها؟
واشنطن تريد إدارتها، تل أبيب تريد مراقبتها، والعرب يريدون تهدئتها، والعالم يريد نسيانها.
لكن غزة، كما علّمتنا الحروب، لا تُدار إلا بإرادة أهلها.
وحين تتوحد هذه الإرادة، يسقط كل مشروعٍ وصايةٍ مهما بدا محكمًا.

فلسطين اليوم أمام مفترقٍ تاريخيٍّ جديد: إما أن تُستعاد كقضية تحررٍ وطنيٍّ حقيقية، أو تُختزل في نموذج إدارةٍ دوليةٍ بلا روح.


ومع ذلك، يبقى الأمل في أن هذه الأرض — التي عرفت الغزاة جميعًا — ستعرف أيضًا فجرها الخاص، لأن الشعوب التي تتقن الصمود تعرف دائمًا كيف تصنع التاريخ من بين الركام.

  • – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.

شاهد أيضاً

واصل أبو يوسف

واصل أبو يوسف : أي تجاهل لمرجعية منظمة التحرير يعد تكريساً للانقسام ويخدم أهداف الاحتلال بمنع تجسيد الدولة الفلسطينية

شفا – قال عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واصل أبو يوسف، إن الموقف الفلسطيني منذ …