
قراءة في قصيدة ما بين أوتار المكابرة… ، للمحامية عائشة يونس ، بقلم : رانية مرجية
في هذه القصيدة المبهرة، تتجلّى الإنسانية في ذروة ضعفها وكبريائها معًا؛ صوت الضرير هنا ليس صوت عجزٍ، بل نبوءة بصيرةٍ ترى ما لا تراه العيون.
البصيرة قبل البصر
تبدأ القصيدة من مفارقة مدهشة:
“ضريرٌ.. ضريرٌ أنا أُجاهد الخطى”
فالعمى ليس فقدان الرؤية، بل تحوّلها.
العكازُ في يد الشاعر ليس سندًا جسديًّا، بل رمزُ إرادةٍ تتحدى الإعاقات.
كأن الشاعرة تقول إن النور الحقيقيّ يسكن الداخل، لا الأفق.
كبرياء الانكسار
عائشة يونس لا تكتب لتُرثي، بل لتُقاوم.
حين تقول:
“فما كنت أرجو عود مشيٍ مساعدًا”
فهي تُعلن تمرّدها على العجز، وتُعيد تعريف القوة:
القوة ليست في الجسد، بل في الحرف الذي يُجلد الألم ولا ينكسر أمامه.
إنها تُكابر لتبقى، فالمكابرة هنا ليست غطرسة، بل سترُ كرامةٍ على وجعٍ عميق.
الشعر كجسر بين الألم والكرامة
في مقاطعها الوسطى، يتكثف المعنى:
القصيدة تتحوّل إلى حوارٍ بين القلب والظل، بين الغربة والذاكرة،
“كفيفٌ… ولكنّي بصيرٌ بحقّهم”
جملة تُغني عن مجلداتٍ من التجارب الإنسانية.
هي صلاة بصرية في معبد العتمة.
بين الوجع والرسوخ
في الختام، يعود الضرير ليعلن:
“باقٍ أنا، باقٍ أنا وإن ثار بركان”
هنا تبلغ القصيدة نضجها، كأنها ختمت سفرَ المقاومة الإنساني.
البقاء ليس تحديًا للقدر، بل تماهٍ معه — أن نحيا رغم الألم، لا لأننا ننجو منه.
خاتمة
قصيدة «ما بين أوتار المكابرة…» ليست مجرّد بوحٍ شخصيّ، بل مرآة لروحٍ جماعيةٍ في مجتمعٍ يجلد المختلفين باسم القوة.
كتبتها عائشة يونس بصلابة أنثى تُحاور الجرح بلغة الذهب، وتؤنسن العمى حتى يصير نورًا.
هي قصيدة تُقرأ بالعقل، وتُشعر بالقلب، وتُحفظ بالوجدان.
ما بين أوتار المكابرة … – عائشة يونس
ضَريرٌ.. ضَريرٌ أَنا أُجاهِدُ الخطى * فَأُبطِئُ لِئلّا أَتَعَثَّرَ بِطُرُقاتي
أُسارِعُ خُطواتِ عُكّازي كَأَنّي دَليلُها * فَإِن ضَلَّتِ الأَقدامُ نَهجَ مَساري
آهِ لِزَماني ..الَّذي أَخضَعَني لِعودٍ * جَلَدتُ بِهِ يوما ساخِرَ رِيعاني
فَما كُنتُ أَرجو عودَ مَشيٍ مُساعِداً * وَمِن قَبلِهِم رافقت الدَّربَ قَبلَ سِفاري
فَلَستُ أَنا مَن يَحتاجُ عُكّازاً * لِطُرُقٍ رَسَمتُها بشفَقِ ألحاني
فَرَودَتهُ أَعيُنٌ مُبصِراتٌ رَأَينَهُ * وَما سَلَكوهُ مِثلَما في اِزدهاري
أَهيمُ بِزَمانٍ… قَد كَسَرتُ عَصاهُمُ * فَأَخضَعَني عَوداً بِقَهرٍ جساري
فَأَيُّ رَجاءٍ أَرتَجي مِن مُفارِقٍ * وَغَداً يَنطِقُ الأَبكَمُ في إِكباري
تَغاضَيتُ كيدهم رِفعَةً وَشَرَفاً * فَحَسِبوا العِزَّةَ جُحوداً وَإِنكار
فَلَو عَرَفوني حَقَّ مَعرِفَةٍ لَما * طَعَنوا جِيدي بِسيف غدارِ
تَعَمَّدتُ الصَّمتَ كَي لا تُدرِكَ آهاتِي*** فسَمعُ الأَصَمِّ أَنينَ فُقداني
كَفيفٌ …وَلَكِنّي بَصيرٌ بِحَقِّهِم * فَما خَدَعَني زَيفُهُم أَو شِعاري
كَصَبيٍّ …يَصقُلُ في الحَديدِ شَجاعَةً * وَيَغفو عَلى حُلمٍ عَتيٍّ بَعيدِ المَزارِ
أَسئِلَةٌ فاضَت بِصَدرِهِ فَأَسَرَّها * عَصِيٌّ هُوَ يُنافِسُ غَسَقَ المَرارِ
يُجاوِرُ بُؤساً في هَزالَةِ جَسَدِهِ * وَيُكابِدُ وَجداً في غَياهِبِ نارِ
فَيا رَأسَ صَبيٍّ غَزاهُ الشَّيبُ عَنوَةً * وَيا قَلب نَزفٍ في تَعَرّي أَسراري
وَيا عَقلَ حَيرى في مَتونِ إِدراكٍ * وَيا جل صَبرٍ في جَلالِ اِنكساري
فان قادت النيران جوفي مضرمة * باقٍ انا ، باقٍ انا وان ثار بركان فلا اهلع لهيبه والنار
باقٍ ..كَأرشيفٍ في ذاكِرَةِ قائِدٍ مِغوارِ ** كمثل رمح حربٍ أخفق بإذلالي
فمَن ظنَّ أنّي لِلرَّفاهِ عاشِقٌ ***خَسِئَ ظَنٌّ لا يَسكُنُ افكاري
فَيا زَهيدَ التَّجارب تَمَتَّع في جَهلِكَ * فَمَن سِواكَ يَلوذُ بِالفِرارِ
واَيا جاهِلَ المَعنى عِش في صَبابَةٍ * فَمَن غَيرُكَ يَنولُ فُتونَ الحَياةِ
عَصَيتُ في العُمرِ مَرَّةً وَمَرارَةً * وَحارَبتُ القِلَّةَ لِأَستَبيحَ مَقامي
خَطيبٌ …أُحاوِرُ النّاسَ بِقُدرَتي * وَأُنافِسُ الشَّحيحَ عَلى رِهانِ اِضمِحلالي
مُخفِقٌ مَن حَسِبَ الحُبَّ حَلاوَةً * وَالدَّمعُ هَطّالٌ عَلَيهِ مُستَباحِ
ضَميرٌ… باتَ في الأَرحامِ غائِباً * وَلِلرّوحِ فَلَذاتٌ كَسَتها الجِراحِ
وأَسيرٌ مَن قَلبُهُ لِلغَيرِ مُستَعبَداً * وَما نابَهُ مِن لَوعَةِ الاِنتِظارِ
عَتيقٌ أَنا في الهَوى يا صاحِبي * وَالعَلقَمُ كَأسٌ اِعتادَتهُ أَوتاري
أُكابِرُ يا صَحبي… فَهَمٌّ وَسَلَّني ما بَني * لَعَلّي في أَكنافِكَ أُريحُ مُقلَتي
طَريدٌ لآلامي عِشتُ دَهرًا مَلوَّعاً * وَما رَفَّت جَفنُ مَرءٍ لِأَسقامي
فَالسُّمُّ في غَيرِ المَرءِ لا يَقتُلُ إِلّا صاحِبَهُ * وَإِن تَوَغَّلَ في الجَسَدِ فَلا حتى يُمهِلُهُ
فَلَو فَرَّ وَرَقٌ خَريفي هارِباً * لَبَقِيتُ في أَحزاني هائِما
وحَلِمتُ أَنّي لِلعَدوِّ الخَفيِّ مَدَدتُ يدي*** ورَأَيتُ أَنَّهُ في عَزائي شامِتا
كَمَا وَأَنَّي لَم أَنتَشِلْهُ في ضيقه * وَقَلبي لأنينه راعِشاً
فَهَل سَأَندَمُ دَهري يَومَا * مِثلِكَ يا بَراقِشا!
أَيا قاضِيَ الخَفاءِ أَنصِفني مَرَّةً * عَجِبتُ مِن عُمرٍ لِسِرِّهِ فَناء!
سَرَقتُ حُروفَ القافِيَةِ طَوعاً * فَمالي اليَومَ لا أُجيدُ الاِتّكاء!
فَإِن صَمَتَت كَلِماتي لِتَعسُفٍ * فَلا تَحسَبني صامت عاجز مضام
فإن جار الزَّمانُ على المرء لبرهة*** يأبى الكلام نطِقا ويعلن الاستسلام
عجبي لصبر قلب لالمه سكرات***نال منه الاسى في حجر الملام
فَما أَخَذَهُ الخَريفُ يَبقى في الفُؤادِ عالِقاً * فَلا شَيءَ يَمحُو أَثَرَ الآلامِ
لَعُمري ما شَهِدتُ وَجعاً نَسِيَهُ الزَّمانُ * وَالجُرحُ باقٍ نَبضُهُ في الفُؤادِ
فَلِلظُّلمِ سُبُلٌ أَقصاها عِنادٌ * وَالحَقيقَةُ واحِدَةٌ وَلَها الشَّهاد
فَهَل اليَومَ خَدَعَكَ ما قَد دُوِّنَ بِالرَّصاصِ؟ * أَخْبَرتُكَ يا صاحِبي وَالجُروحُ قِصاصٌ!
- – عائشة يونس محامية من عرعرة وتكتب الشعر
القصيدة أعلاه من نظمِها وألقتها يوم السبت 11.10.2025 في اليوم الدراسي عن الشعر العربي والمحلي في عارة عرعرة
يوم دراسي عارة عرعرة