
من يقنع طفلي الصغير أن يتنازل عن مصروفه اليومي لأن الحكومة في أزمة؟ بقلم : معروف الرفاعي
أربعة أعوام أو يزيد، والموظف العمومي الفلسطيني يعيش على أنصاف الرواتب، وأنصاف الوعود، وأنصاف الأمل، أربعة أعوام من الانتظار الطويل، من الصبر الذي أُنهك حتى بات وجعًا يوميًا يرافقه من لحظة استيقاظه حتى عودته إلى بيته الخالي إلا من أسئلة الأبناء ووجع الفواتير.
ومع ذلك، يظل هذا الموظف في موقعه، يؤدي واجبه، يلتزم بدوامه، يرفع علم دولته، ويحمل همّ الوطن على كتفيه بصمتٍ وكبرياء، وكأنه جزء من جدارٍ صلب لا يتصدع مهما اشتدت العواصف.
لكن، إلى متى؟
بدأ العام الدراسي في المدارس والجامعات، ومعه بدأ سباقٌ جديد مع الهموم، فالأقساط، والرسوم، والمصاريف، وطلبات الأبناء التي لا تنتهي، والموظف الذي بالكاد يحصل على نصف راتب، يواجه اليوم معركة الحياة اليومية بلا سلاح ولا درع، فمن أين له أن يُؤمّن قسط الجامعة لابنه؟ ومن أين يشتري الحقيبة والزي والكتب؟ ومن أين يأتي بمصروفٍ يومي لطفله الصغير الذي لا يفهم شيئًا اسمه “مقاصة” أو “أزمة مالية”؟
إنها معركة البقاء التي يخوضها الموظف الفلسطيني بصمت، بينما تلتفت الأنظار إلى كل الأزمات من حوله، وتُغفل أكبرها وأخطرها: أزمة الإنسان الذي يعيل الوطن.
أعرف موظفين لا يملكون ثمن المواصلات إلى مكاتبهم، ومع ذلك لا يتغيبون، وأعرف من يعمل ليلًا في محطات الوقود أو في محالّ البقالة بعد دوامٍ طويل في مؤسسة حكومية، فقط ليُطعم أبناءه.
أعرف من يخفي وجعه حتى عن أسرته، كي لا يُشعرهم بالعجز، فهؤلاء ليسوا متخاذلين، بل أبطالٌ حقيقيون.
لكن البطولة لا يجب أن تكون قدرًا دائمًا، والسكوت لا يعني الرضا، والصبر الذي استُنزف أربع سنوات لا يمكن أن يُختزل في شعاراتٍ عن “الظروف الخارجة عن الإرادة”.
نعم، نعلم أن الاحتلال هو السبب الأول في خنق الاقتصاد الفلسطيني، وأن أموال المقاصة تُحتجز ظلمًا وعدوانًا، ونعلم حجم الضغوطات، ونعلم أن الأزمة مركّبة، ولكن من قال إن الموظف عليه أن يدفع الثمن وحده؟
من قال إن عليه أن يتحمل فشل السياسات المالية، وتراكم العجز، وسوء التخطيط؟
من يقنع صاحب البيت أن ينتظر المقاصة؟ من يقنع البنوك ألا تخصم القروض؟ من يقنع المدارس والجامعات أن تؤجل أقساطها؟ ومن يقنع الطفل الصغير أن يتنازل عن مصروفه لأن الحكومة في أزمة؟
الحكومة مطالبة لا بتبرير الأزمة، بل بإيجاد حلولٍ عاجلة لها، ليس من العدالة أن يبقى الموظف أسير انتظارٍ طويل بينما تُدار الأمور بمنطق “سنرى لاحقًا”، فالموظف ليس رقمًا في الموازنة، بل إنسان له عائلة، وله حقٌّ على دولته، تمامًا كما يؤدي هو واجبه تجاهها بلا تقصير.
ها هي النقابات بدأت تُعلن عن تحركاتها، المعلمون أولًا، وغدًا قد تتبعهم قطاعات الصحة والهندسة والقضاء والتعليم العالي وغيرها.
هل لدينا خطة؟ هل لدينا رؤية؟ أم أننا ننتظر الانفجار الاجتماعي الصامت؟
الإضرابات ليست نزوة، بل صرخة تعب، والاحتجاج ليس تمردًا، بل نداء استغاثة من موظفٍ لم يعد يملك إلا كرامته وصبره.
نعم، الشعب الفلسطيني صبور، لكن لا يجوز أن نُحوّل الصبر إلى سياسة حكومية،
ولا يمكن أن نستمر في مطالبة المواطن بالمزيد من التحمل، بينما لا يُقدَّم له سوى الكلام، فالصبر الذي كان يومًا موقفًا وطنيًا نبيلًا، أصبح اليوم عبئًا ثقيلًا.
لقد آن الأوان أن تتحرك الحكومة بخطة طوارئ حقيقية: لضمان انتظام الرواتب ولو تدريجيًا، ولإعفاء الموظفين مؤقتًا من بعض الالتزامات البنكية، ولفتح حوار جاد مع النقابات، ولطمأنة الناس بأن الحكومة لا تنام على وجعهم.
لا أحد ينكر أن الأزمة حقيقية ومعقدة، لكن تجاهلها أخطر من أصلها، وإن كان الاحتلال مسؤولًا عن كثيرٍ من أوجاعنا، فالحكومة مسؤولة عن كيفية إدارتها، فالموظف الفلسطيني لم يعد يحتمل المزيد من الصمت، لأنه لم يعد يملك ما يخسره سوى كرامته.
آن للحكومة أن تضع ملف رواتب الموظفين في رأس أولوياتها، لا في ذيلها، فلا أمن، ولا تعليم، ولا عدالة، ولا استقرار دون موظفٍ يشعر أن دولته تقف إلى جانبه لا على كتفيه.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .