1:52 صباحًا / 12 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

قراءة وارفة في ديوان « أنّات وطن » للشاعرة سلمى جبران ، بقلم: رانية مرجية

قراءة وارفة في ديوان « أنّات وطن » للشاعرة سلمى جبران ، بقلم: رانية مرجية

قراءة وارفة في ديوان «أنّات وطن» للشاعرة سلمى جبران ، بقلم: رانية مرجية

تمهيد: حين تُصبح القصيدة بيتًا للوجود

في عالمٍ يتآكل فيه المعنى، وتُستبدل فيه الذاكرة بالضجيج، تأتي سلمى جبران في ديوانها «أنّات وطن» لتعيد للشعر جوهره الإنساني والروحي.

تكتب لا لتصف، بل لتستنطق المسكوت عنه؛

لا لتروي الحكاية، بل لتستعيد صداها المفقود في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي.

ديوانها ليس نصًا شعريًا فحسب، بل بيان وجداني فلسفي، يربط بين الأرض والأنثى واللغة في معادلة واحدة،

فيجعل من القصيدة كائنًا حيًّا يتنفّس بالحنين والمقاومة، ويتألّم بجلالٍ كالأرض بعد المطر.

أولًا: الشعر كفعل مقاومة وجودية

منذ العنوان، تُعلن سلمى جبران عن مشروعها:

“أنّات وطن” ليست أنينًا عابرًا، بل موقفًا أنطولوجيًا من الوجود في وجه الغياب.

إنها لا تنوح على الوطن، بل تجعله ينوح داخلها؛

تحوّل الألم إلى بنية شعرية تشبه صرخة الولادة، لا النحيب.

في شعرها، تتجلّى فكرة أن الوطن ليس مكانًا جغرافيًا بل حالة وعي، وموقف أخلاقي.

فهي تكتب من داخل السؤال لا من خارجه:

من أنا حين يُسلب الوطن؟

من الوطن حين يُختزل في خريطة؟

من الشعر حين يُفرّغ من روحه؟

بهذا المعنى، تُعيد جبران تعريف الشعر كفعل بقاء، وكـ”كتابة ضد الفناء”،

حيث يتحوّل كل بيتٍ شعري إلى محاولة لإنقاذ ما تبقّى من الإنسان في وجه التوحّش.

ثانيًا: الأنوثة بوصفها مرآةً للكون

في معظم قصائد الديوان، تتماهى الأنثى بالأرض، والأرض بالأنثى، فيتحوّل الجسد إلى نصّ، والنصّ إلى جسد.

لكن سلمى جبران لا تقدّم أنوثة مفرغة أو رومانسية؛ بل أنوثة كونية، صلبة، متمرّدة، تحمل في رحمها الحلم والدم معًا.

هي الأنثى التي تنجب الوطن بالكلمة،

تُرضعه من حليب الصبر،

وتكفّنه بالحنين حين يموت.

في شعرها، الأنوثة ليست نقيضًا للوطن، بل هي الوطن ذاته حين يستعيد وجهه الإنساني.

وهنا نلمح تأثير الفكر الصوفي والنسوي معًا:

فكما تبحث المتصوفة عن الاتحاد بالمطلق عبر العشق، تبحث سلمى جبران عن اتحاد الذات بالوطن عبر الألم.

إنها تكتب الوطن بوصفه تجربة وجودية أنثوية، لا باعتباره موضوعًا سياسيًا أو عاطفيًا،

فتجعل من كل كلمة فعل خلاص، ومن كل قصيدة رحمًا يتكوّن فيه المعنى من جديد.

ثالثًا: بنية اللغة… بين الشفافية والرؤيا

لغة سلمى جبران لغة طهورية، لا تلوّثها الزخرفة.

هي تكتب كما تتنفّس: بحرارة الروح.

لكن خلف هذا النقاء، يقف وعي عميق بالبنية اللغوية والإيقاع الداخلي.

في قصائدها، تُصاغ الكلمة لا على أساس الوزن أو القافية، بل على إيقاع الحنين.

فهي تعرف أن الحنين هو البحر الذي تعوم عليه الذاكرة،

وأنّ الموسيقى الحقيقية ليست في الخارج، بل في نبض القصيدة ذاتها.

توظّف جبران الرموز الطبيعية — الزيتون، المطر، التراب، الطير، الجرح — كعناصر بنائية لا تزينيّة،

فكلّ رمزٍ فيها يحمل ذاكرةً ثقافية ووجدانية.

الزيتون ليس مجرد شجرة، بل شاهد على الصبر،

والمطر ليس ماءً، بل تطهير للذاكرة،

والجرح ليس نزفًا، بل طريقًا نحو الشفاء.

إنها تمارس على اللغة طقسًا تطهيريًا يشبه الصلاة،

فتتحوّل القصيدة عندها إلى محرابٍ، والكتابة إلى عبادةٍ للمعنى.

رابعًا: البنية الشعرية… سرد المقاومة في نثرٍ مشبع بالإيقاع

في بنية النص، تزاوج سلمى جبران بين القصيدة النثرية والقصيدة الغنائية،

فتخلق شكلًا هجينًا يجمع بين حرية الحداثة ودفء التراث.

هي لا تتقيد بالشكل، لكنها تحافظ على روح القصيدة العربية في نبضها الداخلي.

تستخدم التكرار الصوتي كأداة للتوكيد النفسي:

“أنا الأرض… أنا الجرح… أنا الحنين”،

فتجعل من التكرار جسرًا بين الذات والجماعة، وبين الصرخة الفردية والمأساة الجمعية.

وهذا ما يمنح نصها خصوصيته:

قصيدتها لا تُقال، بل تُنصت إليها؛

فكل بيتٍ فيها يبدو كأنّه صدى بعيد لصوتٍ أكبر من اللغة نفسها.

خامسًا: فلسطين – الذاكرة المقدّسة

فلسطين عند سلمى جبران ليست مسرحًا للألم، بل أيقونة للكرامة.

هي الأرض الأولى، والحلم الأخير، والمكان الذي لا يُغادرنا حتى حين نغادره.

تكتبها كما تُكتب الصلاة: بصمتٍ مليءٍ بالكلمات.

تجعل من القدس حبيبة لا تُرى إلا بالبصيرة،

ومن التراب كتابًا مفتوحًا على السطور الأولى للخليقة.

إنّ حضور فلسطين في «أنّات وطن» يتجاوز الخطاب السياسي،

ليتحوّل إلى ميتافيزيقا الانتماء — انتماء الإنسان إلى الجذور، والروح إلى ما يبرّر وجودها.

وفي لحظاتٍ كثيرة، تشبه سلمى جبران محمود درويش في صدقها،

لكنها تتفرّد بصوتٍ أنثويّ متوهّجٍ بالدفء،

حيث يصبح الحنين أكثر صدقًا من الذاكرة، والألم أكثر نضارةً من الأمل.

سادسًا: فلسفة الأمل في قلب العتمة

على الرغم من الحزن الطاغي في العنوان، لا يشي الديوان باليأس.

ففي كل أنّةٍ هناك بذرة ضوء،

وفي كل وجعٍ هناك وعد بالحياة.

تكتب سلمى جبران لتقول إن الوجع ليس نهايةً، بل بداية الطريق إلى الشفاء.

هي تؤمن أن الشعر لا يُغيّر العالم، لكنه يُغيّر وعينا بالعالم،

وأنّ القصيدة لا تعيد الوطن، لكنها تحمي صورته من الذبول.

هكذا يتحوّل «أنّات وطن» إلى مشروع أملٍ مستتر،

إلى مرآةٍ تُظهر لنا قبح الواقع كي نجرؤ على الحلم.

سابعًا: التأمل الجمالي والفكري

ما يميز هذا الديوان هو أنه ينتمي إلى الشعر كما ينتمي الحلم إلى العين:

وجوده طبيعي، عضوي، لا يُمكن اقتطاعه من الشاعرة دون أن تنزف.

في كل قصيدة، ثمّة تواشج بين الحسيّ والفكريّ،

بين التجربة الفردية والأسطورة الجماعية.

فهي تمارس الكتابة بوصفها معرفة، لا بوصفها ترفًا،

وتقدّم القصيدة كوثيقة لوعيٍ أنثويٍّ ناضجٍ يقرأ العالم بعينين دامعتين وبصيرةٍ نافذة.

خاتمة: حين تصير الأنثى وطناً والقصيدة صلاةً

«أنّات وطن» ليس ديوانًا يُقرأ، بل يُعاش.

كلّ قصيدة فيه تنبض بدم الشاعرة،

وكلّ سطرٍ فيه يشهد أنّ الكتابة عند سلمى جبران شكلٌ من أشكال الخلاص.

هي لا تكتب لتؤرّخ الحزن، بل لتعيد تشكيل الوعي.

وفي زمنٍ تتناسل فيه النصوص الباردة، تأتي هي لتذكّرنا أن الشعر ما زال أقرب إلى النبوءة منه إلى الحرفة.

إنها تكتب الوطن كما تُكتب الأمومة: بوجعٍ خالدٍ، وعشقٍ لا يفنى.

وهكذا، تبقى أنّات سلمى جبران صدى لأوطانٍ لم تمت،

تعلّمنا أن الأرض حين تنزف شعرًا، فإنها تعلن الحياة من جديد.

شاهد أيضاً

الرجوب : نأمل أن يشكل اتفاق غزة مقدمة لوقف العدوان على كافة الأراضي الفلسطينية

الرجوب : نأمل أن يشكل اتفاق غزة مقدمة لوقف العدوان على كافة الأراضي الفلسطينية

شفا – أعرب الفريق جبريل الرجوب أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح جبريل الرجوب، عن …