
اليوم التالي ، هل سيكون هندسة أمريكية بواقع استعماري ؟ بقلم : مروان إميل طوباسي
تم الإعلان عن التوصل إلى اتفاق على المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ، على أن تبدأ المفاوضات فورا حول المرحلة الثانية، مع استمرار وقف إطلاق النار طالما التزم الطرفان بخطة ترامب .
ورغم أهمية وقف الإبادة في غزة وهو ما يشكل ضرورة عاجلة ومصلحة وطنية وانسانية ، إلا أن ما يتشكل أمامنا ليس “يوما فلسطينيا جديدا”، بل يوما هندسته واشنطن بواقع استعماري جديد ، يهدف إلى إدارة غزة لا إلى تحريرها .
الهندسة الأميركية التي تُرسم لغزة اليوم ليست عملاً عشوائياً ، بل امتداد لمشروع أوسع بدأ مع ما يسمى بـ”صفقة القرن” وربما ما قبل ذلك بما سُمي “الربيع العربي” بالتعاون مع جهات ساهمت بأسقاط المشروع والدولة الوطنية بالعالم العربي ، وتطور لاحقاً عبر خطة ترامب الاقتصادية الأولى عام ٢٠١٩ التي قدمها جاريد كوشنر انذاك ، والتي ربطت الازدهار الاقتصادي بالشرق الأوسط الجديد بقبول الشروط السياسية الإسرائيلية في محاولة لضمان استمرار المشروع الصهيوني الكولنيالي بكل فلسطي وخاصة مع التوسع الاستيطاني والتهويد الجاري بالضفة بما فيها القدس وشن الحروب بكل المنطقة .
ومن اللافت أن خطة ترامب لغزة اليوم، والتي تأتي كبديل لمخرجات مؤتمر نيويورك وتسارع الاعترافات بالدولة ، تتحدث عن مشاريع وفرص وممرات استثمارية ، لكنها تتجاهل تماما الأساس السياسي ، أي حق تقرير المصير لشعبنا والسيادة الوطنية الفلسطينية والتمثيل السياسي المكتسب عبر الشرعية الدولية ، وهذا يجعلها خطة بلا أرض ودون عنوانا وطنيا ، واقتصاداً بلا دولة مستقلة ذات سيادة ومتواصلة جغرافيا .
الجديد في النسخة الحالية من خطة ترامب أن المشروع يُقدم بغطاء “إغاثي”، مستفيداً من ارهاق العالم من مشاهد عدوان الإبادة والتطهير العرقي والتجويع والدمار الذي لم يعد العالم يقبل استمراره بما عبر عنه من مظاهر التضامن الواسعة مع شعبنا ب الشوارع والبحار ، ليبدو كحل إنساني ، فيما هو في جوهره صفقة سياسية واقتصادية لنزع القرار من أيدينا نحن الفلسطينيين وإعادة تشكيل غزة بما يتناسب مع مصالح واشنطن وتل أبيب بالأساس .
لكن ما دفع الأمور إلى هذا الاتفاق ليس فقط الضغط الأميركي أو التفاهمات الخفية التي ما زالت غامضة ومفخخة ، بل أيضا الأزمة البنيوية العميقة داخل إسرائيل ، حيث يواجه النظام السياسي هناك انقسامات حادة واحتجاجات متواصلة على القيادة اليمينية والدينية المتطرفة ، إلى جانب اهمية تعاظم التضامن الدولي الشعبي بل والرسمي في بعض منه ايضا ، وصمود شعبنا الأسطوري في غزة ، الذي غيّر قواعد المعادلة وأجبر القوى الكبرى على البحث عن مخرج سياسي مؤقت .
ومع ذلك ، فإن “المخرج” الأميركي لا يعني نهاية الصراع ، بل بداية مرحلة جديدة من التحكم غير المباشر من خلال تطويع الكثير من الانظمة المحيطة . فالإدارة الأميركية تسعى لإعادة بناء ما دُمر عبر شركاتها الإستثمارية وشركائها الإقليميين ، كما فعلت في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان . الهدف ليس “الإعمار”، بل إعادة هندسة المكان والسلطة والوعي الفلسطيني في إطار جديد يجعل من غزة مختبراً لمشروع “السلام الاقتصادي” القائم على السيطرة من دون سيادة .
ما يُخطط له اليوم هو تغيير جوهر الصراع ، تحويل القضية من صراع له علاقة بفكر أستعماري تجاه حقوقنا الوطنية بالأرض والحرية والكرامة والسيادة ، إلى صراع على إدارة المعابر والمساعدات والمشروعات الإستثمارية من الغاز والمياه والمعابر المائية والطرق التجارية والموانئ وغيرها من مشاريع اعادة الإعمار التي ستبقى في يد صانع الخطة وبلير ومن اهمها قناة بن غوريون . أي أن الفلسطيني يُعاد تعريفه في خطة ترامب وبلير كمستفيد من خطة إنسانية ، لا كصاحب حقوق وطنية وكيان سياسي مستقل . وهكذا تتحقق الغاية التي عجزت باستمرار عنها مظاهر الاضطهاد الإستعماري الاسرائيلية ، اي تفكيك الوعي الوطني وترويضه اقتصادياً .
بأعتقادي فإن أي خطة لا تُعالِج بنية الأحتلال الاستيطاني نفسها محكوم عليها بالفشل ، لأنها لا تغير شروط اللعبة بل تكرسها .
الآن ، إن ما يجري ليس “نهاية الحرب” بل بداية مرحلة استعمارية جديدة بأدوات ناعمة رغم انتظار شعبنا هذه الساعة من توقف الإبادة والتدمير وبالإفراج عن عدد من أسرانا الابطال من السجون الاسرائيلية كما وبدء انسحاب جزئي من غزة لقوات الأحتلال وادخال الدواء والطعام . فمن خلال هذه الخطة ، تسعى واشنطن إلى رفع العزلة عن دولة الأحتلال ، والى ترميم صورتها المهزوزة بعد عامين من الشراكة معها بالإبادة الجماعية ، وتعمل في الوقت ذاته على إعادة تأهيل إسرائيل سياسيا بما ربما يحتاج الى تغيير حكومتها واستبدال نتنباهو ، وربط المنطقة كلها بمسارات اقتصادية وأمنية تصب في مصلحة التحالف الأميركي – الإسرائيلي ، وهو ما يتفق بما يجري من الضغط الأمريكي لتغير واقع السلطة الوطنية ايضاً من جهة اخرى ، رغم حاجتها للأصلاح لكن بقرار وطني مستقل بعيدا عن الأملاءات الجارية والمتسارعة .
ومع أننا والعالم يُرحب بالتأكيد بوقف القتل اليومي ومحرقة القرن ٢١ بحق شعبنا ، علينا أن نحذر من وهم “اليوم التالي” كما يرسمونه لنا . فإعمار غزة لا يمكن أن يكون على حساب الحق الوطني ، ولا يمكن أن يكون ثمنه قبول الوصاية أو التخلي عن السيادة الوطنية .
فمن دون موقف عربي واعي لما يجري من استهداف للقرار العربي المفترض ، ومن دون مشروع وطني تحرري جامع وواضح يعاد تعريفه بعد مراجعة نقدية لمسار حركتنا الوطنية بارادة سياسية لا يجب تأخيرها ، ستبقى غزة ميداناً لتجارب الآخرين ، بينما تبقى فلسطين تنتظر فجراً يصنعه أبناؤها المخلصين لا مهندسوا البيت الأبيض ومعاونوهم .