
الخير عند مطراه ، رحلة الأمثال من اللسان إلى الإعلام ، بقلم : نادر سكاكية
في زوايا الذاكرة الشعبية، تختبئ كنوز لغوية وثقافية لا تقدر بثمن، من بينها الأمثال التي حملها الناس عبر الأجيال كرسائل مختصرة عن الحياة، أحد هذه الأمثال يقول: “الخيّر عند مطراه”. عبارة قصيرة، لكنها تختصر فلسفة كاملة عن أثر الإنسان الطيب حين يذكر، وكيف أن سيرته وحدها تكفي لإحياء صور عطائه ومواقفه النبيلة.
هذا المثل ليس وليد اللحظة، بل امتداد لتقاليد عربية قديمة، حيث كان ذكر الخير فضيلة تتناقلها الألسن في المجالس والقصائد، في العصر الجاهلي، كان الشاعر يخلد سيرة الفارس الكريم، وفي الإسلام، جاءت الأحاديث النبوية لتؤكد على أهمية ذكر الصالحين والاقتداء بهم فالسيرة الطيبة لا تموت، لكنها تتجدد كلما استدعيت.
يضع المثل، في جوهره، معيارًا لفهم قيمة الإنسان بما يتركه من أثر، فالذكر الحسن هو الثروة الحقيقية، والإرث الذي يبقى بعد الرحيل، في الماضي، كانت الحكايات الشعبية وسيلة لتداول هذه الذكرى، إذ كان الراوي يذكر اسمًا، فتنهال القصص التي تعيد للأذهان مواقف الخير والعطاء.
ومع تطور وسائل التواصل، انتقل هذا الدور إلى الإعلام، لم يعد “الخيّر” يذكر فقط في جلسات السمر، لكنه أصبح يوثق ويبث عبر الصحافة، الإذاعة، التلفزيون، والمنصات الرقمية، فالإعلام اليوم هو “المطراة” الجديدة، التي تستدعي الخيّر وتوسّع صداه، ليصل إلى ملايين الناس في لحظات.
عندما يسلط الإعلام الضوء على مبادرة إنسانية أو شخصية كرست حياتها للعطاء، فإنه لا يوثق حدثًا فحسب، بل يحيي المثل الشعبي بطريقة عصرية، فالخيّر حين يُذكر، يتحول إلى عدوى إيجابية، تلهم الآخرين وتدفعهم نحو الفعل.
لغويًا، يبرهن المثل على قدرة الأمثال الشعبية في تكثيف المعنى، إذ يجمع بين البساطة والبلاغة، ويمنح النصوص الإعلامية عمقًا وجمالًا، فـ”الخيّر عند مطراه” يصور الخير وكأنه كائن يظهر عند ذكره، فيجعل المعنى ملموسًا وحاضرًا.
لكن هذا الدور لا يخلو من مسؤولية، فالإعلام الذي يبرز النماذج المضيئة يعزز الثقة بأن القيم الأصيلة ما زالت حية، بينما التركيز على السلبيات قد يكرس صورة قاتمة عن المجتمع، لذا فإن الإعلام يصنع القدوة، ويكرس المعنى الحقيقي للإنسان الكريم: أن يذكر فيعرف، وأن يعرف فيقتدى به.
في النهاية، يبقى المثل الشعبي شاهدًا على عبقرية الأجداد، وإشارة تدل على أن الذكر الحسن ميراث خالد، ومع دخولنا عصر الإعلام الرقمي، تعاظمت قيمة هذا المثل، لأن الإعلام بات المطراة التي تستدعي الخيّر وتجعله حيًا في كل مكان، فالرسالة واضحة: اذكروا الخير، يظهر الخير.