
أسطول الصمود .. حين يصبح الإنسان هو الراية ، بقلم : المهندس غسان جابر
التاريخ لا يُقاس بعدد الجيوش والدبابات، وإنما بقدرة الإنسان على أن يترك أثرًا في الذاكرة العامة. واليوم، ونحن أمام مشهد “أسطول الصمود”، ندرك أن ما يتشكل أمام أعيننا ليس مجرد حدث عابر، بل هو عودة الروح لفكرة الإنسان ـ الإنسان الذي يتجاوز الدين والجنس والقومية، ليصبح هو العنوان والغاية.
إن الفكرة في جوهرها ليست جديدة. فقد قال تشي جيفارا: “حيثما وجد الظلم، فهناك وطني.” والوطني هنا لم يعد مجرد حامل لعلم أو صاحب أرض، بل صار حاملًا لقضية إنسانية. وما أصدق ما قال ابن الرومي قبل قرون:
“وإذا ما رأيتَ وجوهَ الرجالِ تُضيءُ، علمتَ بأنهم على الحقِّ مجتمعون.”
ولعل أجمل صورة للتاريخ حين يعيد إنتاج نفسه تتجلى في تلك اللحظة التي عاشتها الناصرة يوم رحيل جمال عبد الناصر؛ حين حمل المسلمون والمسيحيون معًا نعشًا رمزيًا، ودخل القساوسة مسجدًا ليصلوا جنبًا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين، وكل على دينه. كان المشهد في جوهره إعلانًا أن بيوت الله جميعًا إنما هي بيت واحد للإنسان، وأن التلاقي لا يحتاج إلا إلى صدق النية.
اليوم، غزة تعيد إنتاج ذات المعنى. رجال الدين فيها ـ مسيحيين ومسلمين ـ يقفون على خط النار، يفتحون الكنائس للمشردين، وتُفتح المساجد للعائلات المكلومة، وتذوب الجدران بين الأجراس والمآذن. هنا يصبح الصمود أكبر من انتماء ضيق؛ يصبح عنوانًا لإنسانية جامعة، حيث يتقدم “أسطول الصمود” كرمز يتحدى كل محاولة لتفريقنا.
وإذا كان البعض يحاول أن يقيس النصر بعدد الصواريخ أو بحجم الدمار، فإن الحقيقة الأعمق أن النصر يُقاس بمدى بقاء الإنسان متماسكًا، مؤمنًا بعدالة قضيته، وقادرًا على أن يخلق من الركام ضوءًا. فهناك أمة إذا ضُربت على الأرض نهضت أقوى، وإذا حوصرت في الزمان انفجرت مدًّا في المكان.
هذا هو المعنى الثوري لأسطول الصمود: أنه ليس مجرد سفن محملة بالمساعدات، ولا مجرد مبادرة سياسية عابرة، بل هو صرخة إنسانية تُعيد تعريف النضال الفلسطيني كجزء من ملحمة البشرية ضد الظلم. إنسان يقف بجانب إنسان، ودمع يلتقي مع دمع، وحلم يتشابك مع حلم.
وهنا، يصبح النداء الأخير من قلب هذا الأسطول موجّهًا إلى الداخل الفلسطيني قبل أن يكون صرخة في وجه العالم: كفى انقسامًا! إن هذا الجرح الذي أنهكنا جميعًا لا يمكن أن يستمر، والوطن لا يحتمل أنصاف الرايات ولا ازدواجية القرار. إن أسطول الصمود دعوةٌ واضحةٌ وصريحة لإنهاء الانقسام فورًا، والالتقاء تحت راية واحدة وقيادة موحدة، لأن فلسطين أكبر من كل خلاف، ومعركة التحرر لا تُخاض إلا بصفٍ واحد وشعب واحد.
“إنني أشعر في أي مكان في العالم بأنني في وطني، حين أرى الظلم يُقاوم، وحين أرى الإنسان يرفض أن ينكسر.” — تشي جيفارا
- – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.