10:54 مساءً / 1 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

بمناسبة تقاعدي من جامعة اليرموك بعد رحلةٍ امتدت نصف قرن بين قاعات العلم والبحث … ، بقلم : د. وليد العريض

بمناسبة تقاعدي من جامعة اليرموك بعد رحلةٍ امتدت نصف قرن بين قاعات العلم والبحث… بقلم : د. وليد العريض

السبعون الأكاديمية… ليست خريف المسيرة، بل ربيع الحكمة

إطفاء شمعة… وإشعال ألف ذكرى

اليوم، ٢٨ أيلول ٢٠٢٥، أطفأتُ شمعة السبعين الأكاديمية من عمري.


إنه اليوم الأول لي خارج أسوار الجامعة بعد رحلة طويلة مع العلم امتدت نصف قرن، تنقلت خلالها بين جامعاتٍ وثقافاتٍ وأرشيفاتٍ ومراكز بحث، فكانت الحياة كلها درسًا، وكانت الجامعة بيتي الأول والأخير.

البداية: جامعة الكويت (١٩٧٣–١٩٨٦)

بدأت رحلتي الأكاديمية في ١ تشرين الأول ١٩٧٣ حين دخلت جامعة الكويت – قسم التاريخ، حيث عملت مساعدًا للبحث والتدريس مدة ثلاثة عشر عامًا كاملة. هناك تشكّلت ملامح شخصيتي العلمية، وهناك عرفت أن الجامعة ليست قاعات محاضرات فحسب، بل فضاء ثقافي وحضاري واسع.

في الكويت، كان لي شرف التعاون مع المركز الوطني للبحوث في فرنسا، ومع قسم التراث العربي في المركز الوطني للثقافة والفنون والآداب – مجلس الوزراء الكويتي، كما عملت باحثًا في مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي، ومن أبرز ما شاركت فيه المشروع الثقافي “افتح يا زمزم”. كانت تلك التجارب المتنوعة أساسًا متينًا لمسيرتي اللاحقة، إذ جمعت بين التعليم والبحث وخدمة الثقافة العربية.

محطة إسطنبول (١٩٨٦–١٩٩٢)

عام ١٩٨٦ انتقلت إلى جامعة إسطنبول – قسم التاريخ، حيث بدأت مرحلة الدراسات العليا والبحث المتعمق. ست سنوات قضيتها بين قاعات الجامعة ومكتباتها، وبين كنوز أرشيف مجلس الوزراء العثماني، حيث عشت مع الوثائق والمخطوطات، واستنطقت تاريخ فلسطين والأردن والعالم العربي بعيون العثمانيين.

وفي الوقت نفسه، عملت باحثًا في المركز الإسلامي للثقافة والفنون (إرسيكا) التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ما أتاح لي الانخراط في مشروعات بحثية وثقافية واسعة، جمعت بين البعد الأكاديمي والرؤية الحضارية العالمية.

جامعة اليرموك (١٩٩٢–٢٠٢٣)

وفي آب ١٩٩٢، استقر بي المقام في جامعة اليرموك – قسم التاريخ والحضارة، حيث قضيت ٣٣ عامًا كاملة متنقلاً من محاضر متفرغ إلى أستاذ. في هذه الجامعة العزيزة وجدت بيتي الأكاديمي، وزرعت فيها أجمل سنوات العمر.

عملت مع أساتذة أجلاء، منهم من غاب عن دنيانا إلى رحمة الله، ومنهم من تقاعد، ومنهم من ما زال على رأس عمله. لكل واحد منهم محبة وتقدير في قلبي. لكن الأجمل والأبقى في الذاكرة هم طلابي الذين أحببتهم بصدق، ورأيت كثيرًا منهم يصبحون أساتذة وعمداء ورؤساء جامعات ووزراء ونوابًا وعلماء بارزين.

لقد أحببت الجامعة وأهلها بلا استثناء: زملائي في الكلية، العاملين في مختلف المواقع، والطلاب الذين كانوا دائمًا زينة العمر وبهجته. لم أفرّق يومًا بين صغير وكبير، ولا بين موظف وأستاذ. كنت أؤمن أن من رسالة الأكاديمي أن يعلّم، ويبتسم، ويواسي، ويشارك الناس أفراحهم وأتراحهم. واليوم، وأنا أغادر، أسعد ما يطمئن قلبي أنني أنهيت هذه الرحلة الطويلة دون أن أقصد أذى أحد، بل سعيت أن أكون أبًا وأخًا وزميلًا وصديقًا.

إجازة التفرغ العلمي (٢٠٢٣–٢٠٢٥)

جاءت إجازة التفرغ العلمي من ٢٨ أيلول ٢٠٢٣ إلى ٢٨ أيلول ٢٠٢٥ لتكون فاصلة هادئة بين قاعات الجامعة وحياة البيت. لكنها لم تكن استراحة، بل كانت انطلاقة جديدة. فقد أتاحت لي هذه الفترة:


-المشاركة في عشرات المؤتمرات والندوات العلمية.
-كتابة ونشر عدد من الأبحاث المتخصصة في التاريخ العثماني والفلسطيني والأردني.
-إنجاز عشرات القصائد الشعرية التي كوّنت دواوين كاملة (لا تقل عن ديوانين).
-كتابة ونشر عشرات المقالات الأدبية والصحفية في المواقع الإعلامية الأردنية والفلسطينية.
-الشروع في إعداد كتب علمية وأدبية ستصدر قريبًا لتوثيق هذا النتاج.

ما بعد الجامعة


اليوم، وأنا أطوي صفحة الجامعة، لا أطوي رسالة العلم ولا الأدب. فما كتبته من بحوث، وما نظمته من قصائد، وما سطرته من مقالات، وما غرسْتُه في قلوب طلابي، سيبقى شاهدًا أنني عشت صادقًا مع رسالتي.

وأجمل ما يبهجني أنني أعود إلى أسرتي التي هي قمّة سعادتي: زوجة صابرة، وأبناء رفعوا رأسي علمًا وأخلاقًا وعملًا، وكانوا دائمًا زادًا للروح ورضًا للقلب.

أسأل الله أن يحفظ جامعة اليرموك، وأن يديم عزها ورسالتها، وأن يبارك في إدارتها وأساتذتها وطلابها وموظفيها. وأسأله أن يمنحنا جميعًا الصحة والعافية لنواصل ما بدأناه من رسالة علمية وإنسانية.

إن السبعين الأكاديمية ليست خريف المسيرة، بل ربيع الحكمة. ليست نهاية الطريق، بل بداية جديدة… أعيشها بين أسرتي وطلابي وكتبي، ممتنًا لكل من شاركني هذه الرحلة الطويلة، ولكل من ترك في قلبي أثرًا جميلاً لا يُمحى.

وسأواصل رحلة البحث العلمي والأدبي ما دامت الأنفاس تحرّك أوراق الشجر…

شاهد أيضاً

البحرية الإسرائيلية تعترض أسطول الصمود المتجه لكسر الحصار عن قطاع غزة

البحرية الإسرائيلية تعترض أسطول الصمود المتجه لكسر الحصار عن قطاع غزة

شفا – اعترضت البحرية الإسرائيلية، مساء اليوم الأربعاء، أسطول الصمود المتجه لكسر الحصار عن قطاع …