2:02 صباحًا / 26 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

“سوار فلسطين على معصم بيترو : حين هزم الرمز صمت الأمم” ، بقلم : قمر عبد الرحمن

“سوار فلسطين على معصم بيترو : حين هزم الرمز صمت الأمم” ، بقلم : قمر عبد الرحمن

في قاعةٍ يَغشاها البرود الدبلوماسي وتثقلها أوراقُ القرارات المكدَّسة، صعدَ الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو إلى منبر الأمم المتحدة. لم يكن صوته وحده هو الحاضر؛ بل ذاك السوار الفلسطيني الذي التفّ حول معصمه، كعُقدةٍ تربط الزمن بالذاكرة، وكأنّه يُعلن أنّ الضمير الإنساني أصدق من كلّ بيانات التنديد وأرفع من كلّ تبريرات العجز.

لم يكن السوار زينةً شخصية ولا تفصيلًا عابرًا في بروتوكولٍ أمميّ صارم؛ بل كان أقرب إلى وثيقةٍ سياسيةٍ صامتة، تصرخ قبل أن يتكلم صاحبها. كلّ خيطٍ فيه بدا وكأنّه شهادة دمٍ أو دمعة، وكلّ لَفّةٍ كأنّها عهدٌ على أنّ فلسطين ليست قضيةً بعيدة، بل جرحًا مفتوحًا في معصم الإنسانية ذاتها.

حين نطق بيترو، لم يُخاطب العالم بلغة المجاملة المواربة، بل بلغة الحقيقة المجرَّدة: كلماتُه كانت نارًا في حناجر الصمت، إعلانًا أنّ الزمن لم يعد يتسع لمزيد من الانتظار. قالها صراحة: إنّ بيانات التنديد لم تعد تجدي، وإنّ ساعة الحرية أو الموت قد دقّت، داعيًا إلى توحيد الجيوش والأسلحة لتحرير فلسطين. لم يكن ذلك مجرد موقف سياسي؛ كان أشبه بجرس إنذارٍ يوقظ العالم من غيبوبةٍ طويلة، ويدعو الشعوب قبل الحكومات إلى أن تتأمّل أيّ مستقبل تُريد.

وما أعمق دلالته حين تحدّث عن سلطة الفيتو، تلك اليد الواحدة التي تتحكّم في مصائر أمم بأكملها، وكأنّها إلهٌ صغيرٌ يوزّع العدالة بالانتقاء. طالب بيترو باستئصال هذا الامتياز الذي حوّل القانون الدولي إلى مسرحيةٍ منقوصة، لا يُنصف فيها المظلوم إلا بقدر ما تسمح به إرادة الأقوياء. كانت كلماته مواجهةً لا مع دولة بعينها، بل مع بنيةٍ كاملة من الظلم العالمي، بنية تُلبس نفسها رداء الشرعية وهي عاجزة عن ردع الجرائم.

لكن خلف الكلمات، ظلّ السوار يلمع كأنّه المتحدث الحقيقي. قطعة صغيرة من القماش والخرز حملت وزن التاريخ كله، كأنّها تقول: إنّ الموقف لا يُقاس بلغة البروتوكول وحدها، بل بمدى استعداد صاحبه ليضع آثار الضمير فوق مصالحه. لقد تحوّل ذلك السوار إلى استعارة كونية: إنّ الرموز الصغيرة قد تفضح عجز القاعات الكبرى، وإنّ ما يلتف حول معصم قائد قد يلتف يومًا حول ذاكرة أمّة بأسرها.

سيكتب التاريخ أنّ أجيالًا ستتذكّر جوستافو بيترو، لا لمجرد أنّه ألقى خطابًا جريئًا، بل لأنّه جسّد شكلًا من أشكال الالتزام الذي لا يزول. سيتذكرونه كما يتذكرون أولئك الذين لم يخافوا أن يعلنوا الحقيقة في وجه عالمٍ يتواطأ مع الصمت. وسيبقى المشهد – رجل على منبر الأمم المتحدة، وسوارٌ صغيرٌ يصرخ باسم فلسطين – درسًا في أنّ الرموز قد تكون أشد وقعًا من المدافع.

إنّ منبر الأمم المتحدة، بما شهده من كلمات ورموز، لم يعد مرآةً لخطابٍ عابر، بل صار مرآةً تُعايننا جميعًا: هل سنظل نُحصي البيانات ونمضي، أم سنجوب درب المسؤولية حتّى يعود الحق إلى مكانه؟ هناك، بين السطور والصور، تُكتب مواقف الرجال؛ وهناك، في ذاكرة الشعوب، يُقاس معنى الشجاعة. وفي لحظة كهذه، قد يكتب التاريخ فصلًا جديدًا لا يُمحى، فصلًا باسمه: الشجاعة حين تعانق الرمز، والرمز حين يتحوّل إلى وعدٍ للشعوب.

شاهد أيضاً

المصادقة على تعيين ديفيد زيني رئيسا لجهاز الشاباك

المصادقة على تعيين ديفيد زيني رئيسا لجهاز الشاباك

شفا – وافقت اللجنة الاستشارية للتعيينات في المناصب العليا بالإجماع على تعيين اللواء المتقاعد، مرشح …