
على أعتاب الدولة : كيف نحول الانتصار الدبلوماسي إلى سيادة؟ ، بقلم : معمر يوسف العويوي
في لحظة تاريخية، ونحن نترقب ما سيجود به مجلس الأمن، نشهد عالماً بدأ يصحو من سباته الطويل، ليعترف بحقيقة ساطعة كشمس كنعان: فلسطين تستحق دولتها. إن إعلانات الاعتراف المتتالية من دول غربية، كانت حتى الأمس القريب جزءاً من معسكر الاحتلال، ليست مجرد حبر على ورق دبلوماسي، إنها صدى لنضالنا الطويل، وصرخة حق ارتفعت فوق ضجيج الظلم، وانتصار لإرادة شعبنا الذي لم تكسره عقود من الاحتلال والتنكر.
هذا الحراك الدولي، الذي تقوده القيادة الفلسطينية والعربية اليوم جعل دول مثل بريطانيا وأستراليا وكندا تعترف بدولة فلسطينية هو أكثر من مجرد انتصار. إنه إقرار من العالم بأن زمن التعامل مع قضيتنا كـ “نزاع” بين طرفين متكافئين قد ولى، وأن الأوان قد آن للتعامل معنا كدولة تحت الاحتلال، لها حقوق سيادية غير قابلة للتصرف. كل اعتراف جديد هو مسمار في نعش الرواية الإسرائيلية التي حاولت طوال 76 عاماً محو هويتنا وإنكار وجودنا. وكما قال الشاعر الراحل محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، واليوم، يقر العالم بأن دولتنا هي من بين ما يستحق الحياة على هذه الأرض.
لكن، وبينما نحتفي بهذا الإنجاز الذي حققته دبلوماسيتنا بدماء شهدائنا وصبر أسرانا وصمود أهلنا في كل بقعة من أرض الوطن، يجب أن نتوقف لنسأل السؤال الأهم والأكثر إلحاحاً: ماذا بعد؟ وكيف نحول هذا الزخم الدولي إلى واقع ملموس على الأرض؟
داخلياً، هذا الانتصار يضعنا أمام مرآة الحقيقة. إنه يمنحنا ورقة قوة لا تقدر بثمن في أي مواجهة سياسية قادمة، لكن هذه الورقة قد تضيع هباءً إن لم نُحسن استخدامها. إنها رسالة واضحة لنا قبل غيرنا: العالم بدأ يتعامل معنا كدولة، فهل سنتصرف نحن كدولة؟ إن أولى خطوات السيادة تبدأ من الداخل، من إنهاء هذا الانقسام المدمر الذي أرهق قضيتنا وأضعف موقفنا. لا يمكننا أن نطالب العالم بالاعتراف بوحدتنا الجغرافية والسياسية، بينما نحن منقسمون. إن الوحدة الوطنية اليوم ليست خياراً، بل هي ضرورة وجودية لا غنى عنها للبناء على هذا الإنجاز. لقد حذرنا المفكر إدوارد سعيد ذات مرة من أن “أكبر انتصار يمكن أن يحققه عدوك هو أن يجعلك تفكر مثله”، والانقسام هو تفكير بمنطق التجزئة الذي يريده لنا الاحتلال.
إسرائيلياً، لا نتوقع من الاحتلال أن يصفق لنا. ردود الفعل الهستيرية من حكومة نتنياهو ووزرائه المتطرفين، ودعواتهم لابتلاع الضفة وتفكيك السلطة، هي خير دليل على أننا نسير في الطريق الصحيح. كل اعتراف جديد هو صفعة لمشروعهم الاستيطاني التوسعي، ويفضح عزلتهم الأخلاقية والسياسية المتزايدة. لقد أثبتت دبلوماسيتنا أن سياسة فرض الأمر الواقع بالقوة الغاشمة لم تعد مقبولة، وأن العالم بدأ يدرك أن أمن إسرائيل الحقيقي لن يتحقق إلا بإنهاء احتلالها وقيام دولتنا المستقلة.
عربياً ودولياً، لقد وضعنا الكرة في ملعب المجتمع الدولي. على أشقائنا العرب مواصلة الضغط وتشكيل جبهة موحدة لدعمنا سياسياً ومادياً. وعلى العالم الذي اعترف بنا أن يترجم هذا الاعتراف إلى أفعال. الاعتراف يجب أن يتبعه ضغط حقيقي لوقف الاستيطان، وحماية شعبنا من إرهاب المستوطنين وجيش الاحتلال، ومساءلة إسرائيل على جرائمها. لا يكفي أن تعترف بنا ثم تقف متفرجاً بينما يتم تقويض أسس دولتنا يومياً.
المهمة الآن فلسطينية بامتياز.
إن تحويل هذا الانتصار الدبلوماسي إلى استقلال كامل يتطلب منا ما هو أكثر من مجرد انتظار القرارات الدولية. المطلوب اليوم هو استراتيجية وطنية شاملة وواضحة، نستلهم فيها قول الرئيس الراحل ياسر عرفات: “يا جبل ما يهزك ريح”. يجب أن نكون كالجبل في وحدتنا وصمودنا:
_ إنهاء الانقسام فوراً: لا سيادة مع الانقسام. يجب تشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل الكل الفلسطيني وتكون عنواناً لمشروع الدولة.
_ إصلاح بيتنا الداخلي: بناء مؤسسات دولة حقيقية، شفافة وديمقراطية، قادرة على خدمة المواطن وتعزيز صموده.
_ مواصلة النضال القانوني: استخدام مكانتنا الجديدة في كل محفل دولي لملاحقة الاحتلال قانونياً وعزله سياسياً.
_ دعم الصمود على الأرض: فكل بيت يُبنى في القدس، وكل زيتونة تُزرع في وجه جرافات المستوطنين، هي حجر أساس في بناء دولتنا. إنها تجسيد حي لمقولة غسان كنفاني: “الإنسان قضية”، وشعبنا هو قضية وجود وصمود على هذه الأرض.
إن التصويت في مجلس الأمن، مهما كانت نتيجته، ليس نهاية الطريق. إنه محطة مفصلية تفتح أمامنا فصلاً جديداً من النضال. لقد كسبنا معركة الاعتراف، وبقيت المعركة الأهم: معركة تجسيد السيادة على أرضنا. فلنكن على قدر هذه اللحظة التاريخية، ولنحول الحلم الذي عاش في قلوبنا إلى حقيقة يراها العالم أجمع: دولة فلسطين الحرة، المستقلة، ذات السيادة الكاملة وعاصمتها القدس.