
قراءة أدبية في رواية “حبوب نفسية” للكاتبة رانية مرجية ، بقلم : الناقد العراقي د. عادل جودة
رواية “حبوب نفسية” هي عمل أدبي شديد الخصوصية والعمق لا يتناول المرض النفسي كحالة طبية بقدر ما يتعمق في أغوار الروح الإنسانية وصراعها من أجل التقبل والسلام.
إنها ليست رواية عن الدواء
بل عن “العادة” اليومية للعيش والشفاء.
أولاً: عتبات النص:
المقدمة والنهاية كإطار ميتافيزيقي
تقوم الرواية على ثنائية متقنة تبدأ بها وتنتهي. المقدمة تعلن رفضها للتصنيفات التقليدية:
”ليست حكاية عن مرض ولا عن دواء”.
وهذا الإعلان هو مفتاح القراءة
فهو يحول مسار القارئ من البحث
عن قصة مرض إلى تأمل رحلة وجودية.
وفي النهاية تكرس البطلة “ليان” هذا المفهوم بشكل عملي وشعري:
“الشفاء لم يكن وعدًا… كان عادة أختارها كل يوم”. هاتان العتبتان تشكلان إطارًا فلسفيًا للرواية بأكملها يحوّل السرد من حدث استثنائي (المرض ثم الشفاء) إلى ممارسة يومية مستمرة مثل اختيار كوب ماء عند الفجر.
هذا يجعل عملية الشفاء هشة وإنسانية قابلة للكسر، ولكنها أيضًا متجددة وقابلة للاختيار كل يوم.
ثانيًا: الانزياح باللغة:
السرد الشعري بين الاعتراف والقصيدة
السمة الأبرز للرواية هي لغتها الشعرية المكثفة
التي تعمل على تخفيف الحدود بين الأجناس الأدبية. اللغة هنا ليست وسيلة للسرد فقط، بل هي جزء من عملية الشفاء ذاتها.
الكتابة تصبح طقسًا:
“أكتب السطر الأخير لهذا الصباح”.
تتحول التفاصيل العادية إلى استعارات عميقة:
·• الظل:
لا يُصوَّر كعدو يجب القضاء عليه بل كجزء من الذات يجب إقامة سلام معه.
وجوده في النهاية “حجمه مناسب لزاوية الضوء” يدل على القبول والتعايش.
·• البيت:
هو الاستعارة المركزية.
إنه ليس مجرد مكان مادي، بل هو النفس الداخلية. بدايةً “يتسع للغياب لكنه لا يسلمه المفاتيح”
وفي النهاية تخاطبه البطلة:
“يا بيت… اتسع”.
هذا التحول من التسع للغياب إلى التسع للنهار الذي “يدخل مثل صديق يعرف أين يضع معطفه”
يرمز إلى الانتقال من الاكتئاب والانكفاء
إلى الانفتاح على الحياة والآخر.
·• المفاتيح:
ترد كرمز قوي.
في المقدمة البيت لا يسلم الغياب مفاتيحه (أي لا يستسلم له تمامًا).
وفي النهاية، “السماء توشك أن تسلم الصبح مفاتيح الأزقة” مما يشير إلى انتقال السلطة من الليل (الاكتئاب/الخوف) إلى النهار (الضوء/الحياة).
ثالثًا:
شبكة العلاقات:
عالم من الدعم الحاني
الشخصيات المحيطة بليان (الأم، الصديقة، الجارة) ليست شخصيات ثانوية تقليدية بل هي تمثل شبكة الأمان العاطفي التي تمكنها من مواصلة رحلتها.
كل واحدة تقدم نوعًا مختلفًا من الدعم:
· الأم التي تحمل خوفًا قديمًا:
تمثل الحب المثقوب بالقلق، لكنه حاضر.
· الصديقة التي ترسم أبوابًا مفتوحة:
تمثل الأمل وإمكانية الخروج والاتصال بالعالم.
· الجارة التي تصر على رائحة النعناع:
تمثل دفء الحياة اليومية والعادات البسيطة التي تربطنا بالوجود.
هذه التفاصيل الصغيرة (رائحة النعناع، خبز يُخبز في فرن بعيد، قطة قانعة) هي “حبوب” الرواية الحقيقية إنها تفاصيل العالم التي تمنحها ليان سببًا للبقاء.
رابعًا: الخاتمة المفتوحة:
الشفاء كرحلة لا تنتهي
النهاية هي ذروة الانزياح عن النمط التقليدي.
لا توجد “نقطة نهاية” واضحة، لا انتصار مطلق ولا هزيمة ساحقة.وبدلًا من ذلك، هناك انفتاح متعمد وجميل:
• “لا أبحث عن نقطة نهاية أترك السطر مفتوحًا”:
هذه جملة ميتاسردية (تتحدث عن عملية السرد ذاتها) تعكس فلسفة الرواية.
الحياة مستمرة والشفاء عملية متواصلة.
• “كما يُترك باب موارب لنسمة تعرف طريقها”: استعارة جميلة توحي بالثقة في أن ما هو آتٍ (النسمة/الحياة/السلام) سيعرف طريقه إذا تركت له مساحة.
• “أطفئ المصباح، وأترك الضوء يأتي من العالم”:
هذه هي النقطة الأكثر قوة.
إنها لحظة استسلام إيجابي، حيث تتخلى عن محاولة صناعة نورها الخاص (المصباح) وتثق في الضوء الطبيعي القادم من العالم الخارجي
من الحياة ذاتها.
خاتمة القراءة
”حبوب نفسية” هي رواية قصيرة-قصيدة طويلة.
إنها عمل عن قوة القبول بدلًا من القتال
عن اكتشاف القداسة في التفاصيل الصغيرة
وعن بناء بيت النفس ليتسع لكل من الظل والضوء. الكاتبة رانية مرجية تقدم لنا هنا ليس مجرد رواية
بل منهجًا شعريًا للعيش
حيث يكون الشفاء اختيارًا يوميًا
ويكون الأمل موجودًا في أبسط الأشياء:
”ماء واسم ونافذة ومن يقرع الباب بأدب”.
تحياتي واحترامي