
المناهج الفلسطينية… شعلة الوعي وقلعة السيادة ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني
تنهض فلسطين في صميم الوعي الجمعي ككيان معرفي وحضاري، حيث تتحول المدرسة الفلسطينية مختبر للوجود والهوية، فضاء يتنفس المعرفة ويروي الوعي، يصوغ ذواتاً نقدية متيقظة، قادرة على مقاومة التغريب وحماية نبض الذاكرة الجمعية. التعليم هنا ليس عملية تبادلية بسيطة، بل بناء بنية تحتية للفكر الوطني، وجسر جدلي يربط بين الذات والموضوع، بين الطالب والمجتمع، وبين الذاكرة التاريخية للحظة الراهنة. كل درس يحمل طابعاً فلسفياً ووجودياً، يحفر في عمق وعي الفرد والجماعة، ويغرس بذور مقاومة معرفية وثقافية أمام محاولات الاستلاب والاستعمار، لتصبح العملية التعليمية فعل مقاومة حضارية بامتياز. المناهج الفلسطينية، برغم محاولات التشويه والتحريف، تحتفظ بوظيفتها الاستراتيجية في إنتاج الذات النقدية والواعية، وترسيخ العلاقة الجدلية بين المعرفة والهوية، بين التجربة الشخصية والانتماء الوطني.
المناهج الفلسطينية نبض الذاكرة، وجسر الهوية، وأداة لصوغ الذات الواعية، لا مجرد نصوص جامدة. تحفظ الرواية الأصيلة عن مدن فلسطين – يافا وحيفا وغزة ونابلس وسواها – باعتبارها مدناً فلسطينية عميقة الجذور، سابقة على ولادة كيان الاحتلال. إنها لا توثق الجغرافيا والتاريخ فحسب، بل تقدس تضحيات الشهداء باعتبارها نواة للكرامة الوطنية، مؤكدة أن الأمم لا تنهض إلا بالاعتراف بأبطالها واستلهام تضحياتهم. المناهج تُكرّس الثوابت الكبرى: الحرية، والعودة، والقدس عاصمة أبدية لفلسطين، مستندة إلى مرجعيات وطنية صلبة تشمل القانون الأساسي والإطار العام للمناهج، إضافة إلى الشرعية الدولية وتوصيات اليونسكو التي تؤكد حق الشعوب في تعليم يعكس هويتها وتاريخها. بهذا المعنى، تصبح المناهج البوصلة الفكرية والتربوية التي تجمع بين العقيدة الوطنية والهوية الحضارية، وتعيد وصل الماضي بالحاضر والمستقبل ضمن مقاومة معرفية وثقافية لا تنكسر.
ينبثق وعي الطالب الفلسطيني في مختبر الوجود والمعرفة، حيث يصبح فاعلاً خلاقاً ومبدعاً، متفاعلاً مع مجتمعه، مستقلاً بفكر مفتوح، وتتحول كل فكرة إلى مقاومة، وكل تجربة إلى شعاع يحصن الهوية ويصون الذاكرة الجمعية ضد التغريب واستلاب الذات.
المناهج الفلسطينية : مختبر الوعي والهوية
يشهد الواقع الفلسطيني تحديات وجودية عميقة، حيث تتحول سياسات الاحتلال الإسرائيلي إلى أدوات سيطرة على الأرض والإنسان والثقافة والتعليم، فتصبح القدس والضفة الغربية وقطاع غزة مسارحاً لصراع وجودي على الوعي والهوية. تتحول المدارس والفصول إلى مختبرات حية للتجربة الوطنية، حيث تتقاطع إرادة الطالب والمعلم مع مقاومة محاولات الاستلاب، ويصبح العدوان المتكرر على المدارس، وتهجير الطلبة، واستهداف المعلمين والمنازل، وتدمير البنية التحتية، ليس مجرد قمع مؤقت، بل إبادة تعليمية تهدف إلى تفكيك النظام التعليمي الوطني وإلغاء المدرسة كمكان للوعي والمعرفة وصون الوجود الفلسطيني.
على مدار السنوات، تعرضت المناهج الفلسطينية لهجوم ممنهج بدأ منذ إعداد المنهاج الوطني الأول في أواخر التسعينيات وتصاعد بعد المنهاج الوطني الثاني عام 2016، عبر تقارير دولية وإعلام تحريضي من مؤسسات مثل IMPACT-se، التي اتهمت الكتب المدرسية بالتحريض على العنف والكراهية وربطت التمويل الخارجي للتعليم بتعديل محتواها. ومع ذلك، أظهرت الدراسات الفلسطينية والعربية، إضافة إلى تقرير معهد جورج إيكرت الألماني لدراسات الكتب المدرسية (George Eckert Institute for International Textbook Research)، أن المناهج الفلسطينية تضم قيماً إنسانية عالمية تشمل التسامح والمواطَنة والحوار بين الأديان والاعتراف بالآخر، مع تعزيز الهوية الوطنية وحقوق الشعب الفلسطيني، إلا أن تقرير جورج إيكرت، رغم اعترافه بهذه الشمولية، مال إلى تساوق مع الرواية الإسرائيلية، متجاهلاً الواقع الفعلي للتعليم تحت الاحتلال وخلط بين محتوى الكتب والإطار الرسمي، مع تضخيم بعض المفاهيم الوطنية والدينية باعتبارها محرضة سياسياً، ما يعكس محدودية استقلالية القرار الوطني الفلسطيني ويؤكد الحاجة إلى تعزيز السيادة التربوية الفلسطينية.
في القدس، تتجلى سياسة الاحتلال بشكل أشد حدة، حيث تُمارس عملية ممنهجة لأسرلة التعليم تهدف إلى محو الهوية الوطنية الفلسطينية وضم المدينة عبر إحلال نظام التعليم الإسرائيلي (البجروت) محل النظام الوطني الفلسطيني، واستبدال المناهج الوطنية بالمحتوى المزور والمحرف، مع استهداف المدارس الوطنية بالإغلاقات وتهديد التراخيص، وفرض قيود مالية وأمنية على الطلبة والمعلمين، ما أدى إلى تراجع المدارس الخاصة وانخفاض أعداد الطلبة وتفاقم مشكلة الاكتظاظ. كما تُزوَّر المناهج الفلسطينية، وتُحذف الشخصيات الوطنية، وتُغيّر الخرائط، ويُحرم الأطفال من تعليمهم بحرية وكرامة، بينما تُعزّز المناهج الإسرائيلية سرديات عنصرية تبرر السيطرة على الأرض، وتغرس عسكرة التعليم، وتصوّر الفلسطينيين كبدائيين ومتطفلين، لتصبح أداة تربوية لإدامة الاحتلال على المستوى النفسي والاجتماعي والسياسي.
تترابط هذه السياسات مع الانتهاكات الميدانية اليومية التي تمارسها إسرائيل، والتي تصل إلى مستوى جرائم الحرب والإبادة الجماعية، بما في ذلك قتل المدنيين، واعتقال الأطفال وتجويعهم، وتدمير المنازل والمدارس والمستشفيات، وحرمان السكان من الاحتياجات الأساسية للحياة، لتغدو المدارس والفصول الفلسطينية مسرحاً صامتاً لمواجهة هذه الإبادة التعليمية، حيث يختبر الطالب والمعلم إرادتهما ويصقلان وعيهما في مواجهة محاولات التغريب واستلاب الهوية.
في مواجهة الضغوط الممنهجة للاحتلال الإسرائيلي على التعليم الفلسطيني، يظل المعلم صانع وعي محوري والطالب فاعلاً جدلياً ضمن بيئة محاصرة، حيث تشمل الضغوط الدولية، بما فيها بيانات الاتحاد الأوروبي التي ربطت التمويل بتعديل المناهج واستضافة دعاة الرواية الإسرائيلية، ما يضعف استقلالية القرار الوطني ويُسهّل استيلاء الاحتلال على أموال المقاصة، مهدداً انهيار النظام التعليمي الوطني. في قلب هذا الحصار، يتحول كل درس إلى شعاع مقاومة، فتغدو المدرسة الفلسطينية مختبراً للوجود، وحصناً للهوية، ومقاماً لصون إرث الأجداد والقيم الإنسانية في وجه الرياح المانعة
استراتيجيات حماية المناهج الفلسطينية وصمود التعليم
حماية التعليم الفلسطيني وصون المناهج الوطنية ليست مجرد واجب، بل فعل حضاري وجودي، رؤية متكاملة تذوب فيها السيادة الثقافية مع العمق الفكري، وتتقاطع فيها المرونة العملية مع صمود الروح. كل تجربة تعليمية تتحول إلى فضاء للوعي الحر والفكر النقدي، حيث يستمر التعليم رغم الحصار والانقطاع والتهجير، ويقف القانون والدبلوماسية كشاهد حارس على الحق، بينما يشكل المجتمع المدني والشركاء الدوليون قوة داعمة تحصّن المدارس والمعلمين. في كل فصل دراسي، في كل نشاط معرفي، تنبض المدرسة الفلسطينية حياة وكرامة، تجربة تربوية وجودية تربط الطالب بالهوية والجغرافيا والتاريخ، تصقل الانتماء الوطني وترسخ حق العودة، فتتحول المعرفة إلى فعل مقاومة حضارية، وفضاء للوعي المستقل، وحصن صامد يحمي إرث الأجداد ويصون آمال المستقبل، لتظل فلسطين حيّة في العقول والقلوب، صامدة بعزيمة لا تلين، ومضيئة بروح الأمل والمقاومة المستمرة.
ولتطبيق هذه الرؤية على أرض الواقع، نقترح سلسلة من الاستراتيجيات والبدائل العملية التي تعزز استقلالية المناهج، وتمكين المعلم، وتوظيف التكنولوجيا، وتعميق دور المجتمع المدني، مع ضمان المساءلة القانونية وتحويل المدارس إلى فضاءات حيّة للوعي والمقاومة، مصحوبة برصد وتقييم مستمر لضمان صمود التعليم وحماية الهوية الوطنية.
أولاً: تعزيز استقلالية المناهج والتمويل الوطني
حماية مضامين المناهج التي تُجسّد الرواية الفلسطينية الأصيلة، وتخلّد المدن الفلسطينية – يافا، حيفا، غزة، نابلس… – كجزء من التاريخ والهوية الوطنية، وتُعلي من شأن القدس عاصمة أبدية، وتكرّم الابطال الشهداء، وتؤكد على حق العودة كمكوّن أساسي من الثوابت الوطنية.
ضمان استقلال القرار التربوي والمناهج عن أي ضغوط خارجية أو محاولات تغريب، لتظل المدرسة الفلسطينية منارة للوعي والسيادة الثقافية.
ضمان التمويل المستدام لحماية المناهج وصون الهوية التعليمية من التحريف والاستلاب.
ثانياً: تمكين المعلم الفلسطيني
تعزيز دوره كمحرك للوعي الوطني والفكر النقدي عبر برامج تدريب مستمرة ودعم نفسي ومعنوي.
تشجيع الحوار المهني بين المعلمين وتحويل الاختلاف إلى قوة بنّاءة، لتكون المدارس فضاءً لإبداع الفكر والتربية النقدية.
تمكين المعلم من ترجمة مضامين المناهج إلى فعل تربوي وطني، يمجّد أبطال الأمة ويحصّن ذهن الطلاب من محاولات الأسرلة والتغريب الفكري، ويعزز وعيهم بحق العودة والثوابت الوطنية.
ثالثاً: توظيف التكنولوجيا التعليمية بشكل استراتيجي
تعزيز التعلم الذاتي والتفاعلي، وتمكين الطلاب من تطوير مهارات التحليل النقدي والتفكير المستقل، لمواجهة التحديات الفكرية والسياسية.
إنشاء منصات افتراضية ومناهج مفتوحة، تتيح وصولاً حراً للموارد التعليمية، مع تكاملها الكامل مع المناهج الوطنية، وحماية الثوابت الفلسطينية من أي محاولات للتغريب أو الأسرلة.
استخدام التكنولوجيا لضمان استمرارية التعليم في الحالات الطارئة، بما يضمن صمود المدارس واستدامة العملية التعليمية رغم الأزمات والحصار.
رابعاً: تعزيز دور المجتمع المدني والشراكات المحلية
تطوير برامج تعاون بين المؤسسات الرسمية، المجتمع المدني، والخبراء الوطنيين لضمان تنسيق وطني شامل وحماية العملية التعليمية.
تشجيع المبادرات التعليمية التي تربط التعليم بالمقاومة الثقافية والفكرية، وترسخ الهوية الوطنية وحق العودة من خلال المشاريع المجتمعية والتاريخ المحلي.
خامساً: المساءلة القانونية والدبلوماسية الدولية
متابعة الانتهاكات الإسرائيلية عبر المحاكم الوطنية والدولية والمنظمات الحقوقية، مع تقديم الأدلة لضمان مساءلة المحتل قانونياً.
توثيق محاولات الأسرلة والتحريف وإبرازها في التقارير الدولية، وربطها بالاتفاقيات الدولية وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحق الفلسطينيين في التعليم وحق العودة.
دعم المبادرات القانونية الوطنية والدولية لتعزيز حماية المناهج والمدارس والمعلمين، بما يشمل التوعية بحقوق الطلاب والمجتمع التعليمي.
المساهمة في حملات ضغط دبلوماسية ومجتمعية لتثبيت الالتزام الدولي بحماية التعليم الفلسطيني وحق العودة، وفضح الانتهاكات في المحافل العالمية لتعزيز الضغط على الاحتلال.
سادساً: تحويل المدارس إلى فضاءات مقاومة معرفية وحضارية
دعم المبادرات التربوية التي توظف المناهج كأداة لترسيخ الثقافة الوطنية والوعي النقدي، بحيث تصبح كل حصة تجربة تربوية وجودية تربط الطالب بالهوية والجغرافيا والتاريخ الفلسطيني، وتكرّس حق العودة.
تعزيز الأنشطة التي تنمي الانتماء الوطني والمشاركة المجتمعية، بما يشمل الفنون والمسرح والموسيقى والمشاريع البيئية والاجتماعية، لتصبح المدرسة فضاءً حياً للصمود والقيادة المدنية.
تتويج المبادرات التعليمية التاريخ المحلي وبطولات الشهداء بالخبرة الحية، فتتحول المدرسة إلى قلعة للوعي ومنارة للصمود، يصوغ الطالب شعلة وعيه ويزرع جذور هويته في عمق الوجود الوطني.
سابعاً: الرصد والتقييم المستمر
إنشاء آليات متابعة مستمرة للأداء التربوي، وصمود المدارس، وجودة المناهج، لضمان مرونة التعليم واستجابته للتحديات السياسية والميدانية.
تحليل المخاطر والتهديدات على التعليم والمناهج بشكل دوري، واستنباط استراتيجيات تصحيحية الاستجابة، لضمان حماية الهوية الوطنية وحق العودة وصمود التعليم كمصدر للوعي والتحرر.
ختاماً، في فضاء المدرسة الفلسطينية، حيث يلتقي الفكر بالوجود، تنبض الروح الوطنية وتتجذر الهوية في كل قلب، فلا تُنسى المدن والشهداء، ولا تغيب ثوابت الحرية والقدس والعودة. هنا تُصاغ الأرواح، متجاوزة حدود الزمان والمكان، فتتحول كل تجربة إلى شعلة مضيئة تنير الطريق للأجيال القادمة. في هذا الصرح المعرفي والوجداني، ينسج الطالب والمعلم نسيج الوعي العميق، فتظل فلسطين حية في العقل والوجدان، صامدة بعزم لا يلين، حاملة إرث الأجداد وآمال المستقبل، وبوصلتها الحرية والكرامة والانتماء الذي لا ينكسر.