
اللامرئي في التعليم ، بمناسبة يوم المعلم ، بقلم : د. فواز عقل
هيا أعيدوا للمعلم شأنه … أو فاقبلوه مجهلا وجهولا
بداية هنالك مجموعة من الأسئلة تثير كاهلي وكاهل المهتمين بالتعليم حول الموضوع:
⦁ هل أصبح الصف يحتوي على جيل كثير الحركة سريع التشتت قليل الانتباه؟
⦁ هل سيتم استنزاف المعلم من خلال ترويض السلوك الصفي بتكرار كلمات مثل: ركز معي، اسكت، انتبه، اجلس، لا تتكلم مع جارك
⦁ هل أصبح الصف ساحة معركة يومية لاختبار قدرة المعلم على ضبط الصف والصبر لا على التدريس؟
⦁ هل استنزاف المعلم شأن خاص بالمعلم أم شأن عام يدق ناقوس الخطر لمستقبل الأجيال لفقدان القدوة؟
⦁ هل الصف لم يعد مكان للتعلم؟
⦁ هل أصبح الصف قاعة لسلوكيات غير مقبولة ويستهلك المعلم فيها طاقته؟
⦁ هل أصبح دور المعلم إدارة أزمة سلوكية بدل تعليما مثمرا؟
هذا الموضوع لا يشير إلى شيء غامض أو خفي في التعليم بل يشير إلى عوامل غير مرئية عند الطالب والمعلم تؤثر
على العملية التعليمية دون أن تكون مرئية أو ظاهرة بشكل مباشر
فهي غير مرئية عند الطالب وتظهر على شكل-مشاعر الخوف القلق والتوتر التي تؤثر على أداء الطالب الصفي لكنها يمكن للمعلم ملاحظتها-أو أن يتأثر الطالب بشخصية وسلوك المعلم وتعامله الإنساني مع الطالب –أو من خلال المنهج الخفي الذي يعلم للطالب في المدرسة مثل احترام الوقت واحترام الآخر والتسامح والحوار والإصغاء والصدق والنظافة.
وهذه القيم المجتمعية الغير ظاهرة تنقل بشكل غير مباشر للطالب
وهذا الموضوع يظهر عند المعلم حيث يجد المعلم نفسه يوميا أمام معادلة كيف يمارس دوره كمحترف كقدوة دون أن يفقد إنسانيته داخل الصف، وكيف يكون تربويا قادر على التعامل مع المواقف الصفية والتفاعل معها، وتظهر خارج الصف أيضا، فالمعلم لا يحمل السبورة ولا الدفاتر وأوراق الامتحانات فقط فهو إنسان يحمل قلقه وتعبه وأسئلته.
يبدأ المعلم رحلته بشغف وحيوية ومحبة وهو صاحب رسالة وليس وظيفة إلا أنه بمرور الأيام ينطفئ شيئا ما داخله، ليس لأنه توقف عن الشغف والمحبة والحيوية بل لأن الشغف والمحبة للمهنة قد استنزفت ولم أقول إن المعلم الذي كان يصنع الفرق أصبح يعود إلى بيته حاملا تعبا عاطفيا وقلقا لا يشاركه أحد، إن استنزاف المعلم لا يقاس بعدد الحصص اليومية والعبء الأكاديمي والتحفيز اليومي وتصليح الامتحانات والمردود المالي، بل يقاس بعدد المرات التي يشعر فيها أنه غير مرئي وأنه يعامل كآلة وليس كإنسان.
المعلم لا يطلب منا أن يتم تدليله بل ان يتم معاملته بإنسانية لأن إرهاق المعلم وتعبه ليس شيئا شخصيا بل جرس يدق ناقوس الخطر المستقبلي وعند إرهاق المعلم تبهت الصفوف وتتعب العقول ويكبر الجيل بلا قدوة بلا نموذج لأن القدوة قد أرهقت.
وقد يقول قائل: معقول؟ هل وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ وأقول: إن النظام التعليمي لا يتراجع فجأة ولا تنهار الدول بضربة واحدة بل تستنزف ببطء حين يرهق المعلم وهنا لسنا أمام أزمة في المناهج التعليمية ولا مشكلة في ازدحام الصفوف ولا نقص في الإمكانات فكلها أزمات قابلة للعلاج إذا توفرت الإرادة لكن الأزمة الأخطر والتي تترك أثرا هي الإرهاق النفسي والمهني للمعلم، لا يرهق المعلم بقرار بل بأساليب ناعمة أكثر قسوة وهذا تعاني منه كثير من الأنظمة التعليمية في العالم الثالث.
إن استنزاف طاقات المعلم في أمور خارجة عن التدريس لا مرئية فالطلاب في الصف في هذا العصر عيونهم مفتوحة وينظرون إلى المعلم ولكنهم ليسوا هناك فهم شاردوا الظهن، يشعرون بالملل وقلة التركيز والانتباه، وهذه الأمور لا يشعر بها إلا من كان في الميدان
ويرى بعض التربويون أن مهنة التعليم لم تعد كما كانت مهنة بناء وتربية وصنع أجيال، بل أصبحت مهنة استنزاف للروح قبل الجسد عند المعلم لأن الطفل يأتي إلى المدرسة لا يعرف كلمة لا ولا يجلس بهدوء ولا يعتذر ولا يحترم ولا يعرف حدود ومع هذا يطلب من المعلم أن يعلم ويربي ويكون مصلحا لينا وكأن المعلم آلة لا يتعب ولا يشعر، لكن المعلم بشر وطاقة تحمله تكاد تكون محدودة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل التدريس معاناة بحد ذاته؟
الجواب: نعم ولا، لأن التدريس يعتمد على الظروف النفسية والمهنية والإنسانية التي يعيشها المعلم ولكن معاناة المعلم ليست تعب جسدي ولا بالساعات الطويلة التي يقف فيها أمام الطلاب وهم جالسون بل في المسافة اللامرئية بين ما يعطيه وتقدير المجتمع له.
التدريس ليس معاناة، بل يصبح كذلك عندما يتم تهميش كرامة المعلم، ومع هذا يشهد نظام التعليم في هذا العصر، ضغوطات متزايدة من الأهل والمجتمع مركزين فقط على التفوق الدراسي والدرجات المرتفعة، وفي هذا العصر فإن وسائل التواصل الاجتماعي سرقت من الطلاب الانتباه والتركيز.
لا يسعني هنا إلا أن أوجه رسالة من القلب إلى الآباء والأمهات
نحن نعلم أنكم تحبون أبناءكم وأنتم ترغبون في الدفاع عنهم لكن ليس كل دفاع عن الأبناء نصر لهم، لأن بعض الانتصارات تسقط الأبناء من الداخل وتزرع فيهم بذرة العناد والتمرد وسوء الأدب واعلموا أنه حين تضعف مكانة المعلم أمام الأبناء لأنكم تبررون أخطاء أبناءكم وتشجعوهم على تحدي المعلم ومجادلته فإنكم لا تنتصروا لأبنائكم بل تساهمون في هدم أول جدار من جدران التربية، المعلم لم ولن يكون خصما بل صاحب رسالة وشريك في صناعة مستقبل أبنائكم وهو الذي يؤمن أن خلف كل طالب حلم ينتظر من يفتح له الطريق.
إن كرامة المعلم من كرامة العلم وإن احترام المعلم و تقديره ليس طاعة له بل احترام للقيم التربوية و لدوره في صناعة جيل المستقبل، لا تزرعوا في عقول أبنائكم لا أحد يعلمني لأن ذلك يسلبهم أجمل ما في الإنسان و هي الرغبة في التعلم ، و اعلموا أن من اعتاد على رفع صوته على معلمه اليوم سيرفع صوته عليكم غدا و من يستهين وجيه المعلم اليوم لن يقبل النصيحة من أحد في المستقبل، ازرعوا في قلوب أبنائكم أن للمعلم هيبة و للمعلم قيمة و للمدرسة احترامها و إن النقد لا يعني الإهانة و الاختلاف لا يعني التحدي، ساعدوا المعلم و المدرسة لتعليم أبنائكم لا كيف ينجحون في الامتحانات و العلامات المرتفعة بل كيف ينجحون في الحياة.
وأقول إن الذي اختار أن يكون في المقدمة، الذي لا يلقن بل يوقظ العقول/الذي يؤمن أن داخل كل طالب ضوء ينتظر أن يكتشف/ وأن التعلم الحقيقي لا يقارن بالدرجات المرتفعة في زمن يقاس كل شيء بالنتائج السريعة/الذي يرى أن التعليم ليس حل مسألة حسابية بل اكتشاف المعنى/الذي يؤمن أن التعليم ليس مهنة أو وظيفة بل رسالة إنسانية سامية وأقول: لو لم أكن معلما لوددت أن أكون.
وبالرغم من كل الأمور الغير مرئية التي تم ذكرها أقول للمعلم:
اعمل لتطلق في العقول نورا يحيي الدجى فكرا وقلبا جميلا
وأخيرا أقول، نحن التربويون، المحاورون، الذين فهمنا كلنا شيء مبكرا، نحتاج إلى كرة أرضية ثانية لنزرع فيها روح الأخلاق و التعلم و التربية و التواضع، نحن أصحاب اليقظة أصحاب البوصلة نصنع البوصلة لليوم التالي ولا ننتظرها.
- – د. فواز عقل – باحث في شؤون التعليم والتعلم
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .