
المعلم الفلسطيني ، رفاه مفقود في أرض التعليم والسيادة المتآكلة ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني
يصمد التعليم في فلسطين ضد محاولات النسيان والطمس الثقافي، ويستمر كفعل مقاومة يومي وتجسيد حي للهوية الوطنية. المعلم الفلسطيني، حارس للذاكرة الجماعية وفاعل وعي تحرري، يجعل كل درس، وكل لحظة صف، امتداداً لصمود الأمة وفضاءً لإعادة إنتاج الوعي الوطني. ليست مهمته مجرد إدارة الصفوف أو الإشراف الأكاديمي، بل هي صوغ التجربة الإنسانية الجماعية، ترسيخ الانتماء، وصيانة استقلالية الفكر للأجيال الناشئة، في مواجهة الاحتلال الذي يسعى لطمس الهوية وفرض سرديات بديلة. كل كلمة تُلقى في الصف، وكل فعل تربوي، هو خطوة مقاومة وتجسيد للكرامة ومقاومة رمزية للتبعية الفكرية والسياسية.
منذ عام 2006، بدأ التعليم الفلسطيني يواجه مرحلة تمزق مستمر، إذ تتآكل ساعات التعلم، وتتضارب السياسات، وتتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لتصبح عملية التعلم ميدان صراع وجودي يومي. ما يجري اليوم أبعد من أزمة مالية أو ضعف إداري؛ إنه إبادة تدريجية للتعليم الفلسطيني، يحاول الاحتلال والضغط الدولي تحويل المعلم إلى أداة تنفيذ لأجندات خارجية عبر الضغط المالي والسياسي أو شروط التمويل الدولي المقيِّدة. كل ساعة تعليمية مفقودة، وكل حصة مقصرة، وكل استراحة محذوفة، ليست مجرد نقص في الزمن، بل رموز لتآكل السيادة، واستلاب الفعل التحرري للتعليم. في هذا المشهد، يصبح رفاه المعلم مؤشراً على قدرة المجتمع على حماية استقلاله الفكري والسياسي، وضمان استمرار التعليم كحق وجودي ووطني.
أولاً: رفاه المعلم بين التحديات والواقع الفلسطيني
لا يمكن الحديث عن رفاه المعلم الفلسطيني بمعزل عن واقع الاحتلال، الأزمات الاقتصادية، وتآكل البنية التعليمية. فالمعلم الفلسطيني يقف اليوم في قلب معركة تتجاوز حدود الصفوف الدراسية، لتصبح معركة بقاء وكرامة وهوية. التحديات المحيطة به مركبة وممنهجة، تمتد من الاستهداف العسكري المباشر إلى الضغوط السياسية والثقافية، إلى جانب الأزمات المالية التي تهدد استقرار التعليم برمته (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024).
إبادة تعليمية ممنهجة/قطاع غزة: في قطاع غزة، يشهد التعليم هجوماً شاملاً يطال البنية التحتية والمدارس والمعلمين والطلاب معاً. أدت الاعتداءات المتكررة إلى استشهاد وجرح العديد من المعلمين والطلاب، وتدمير المدارس، وتشريد آلاف الطلبة وإغلاق المؤسسات التعليمية لفترات طويلة. ما يجري في غزة يسعى إلى طمس الهوية الثقافية الفلسطينية وتدمير الذاكرة الوطنية، في هذا السياق، يتآكل رفاه المعلم النفسي والاجتماعي، إذ يجد نفسه محاصراً بين فقدان الأمن المادي والتهديد المستمر لحياته ورسالة التعليم التي يحملها.
الضفة بما فيها القدس ومحاولات أسرلة التعليم: في القدس، يعمل الاحتلال على أسرلة التعليم الفلسطيني عبر تغيير المناهج، تحريف النصوص، وفرض محتوى يتعارض مع الهوية الوطنية، إلى جانب التحريض المستمر على المعلمين. وفي الضفة الغربية، يواجه التعليم قيوداً على الحركة، وإغلاقات متكررة، واستهدافاً مباشراً للمعلمين، مما يحول المدارس إلى فضاءات مضطربة. في هذا السياق، يصبح رفاه المعلم مرتبطاً بقدرته على مواجهة المخاطر الميدانية والاجتماعية والسياسية، ويتحول التعليم ذاته إلى مجال صراع بين الإرادة الوطنية وضغوط الاحتلال (ILO, 2019).
الدوام والرواتب والضغوط الاقتصادية: إلى جانب الضغوط الميدانية، يواجه المعلم الفلسطيني تحديات داخلية متزايدة.
فقد أدى تقليص أيام الدراسة من خمسة إلى أربعة، وتقصير زمن الحصة من 45 إلى 40 دقيقة، وحذف حصص بعض المواد، وتقليص الاستراحات بنحو 10 دقائق يومياً إلى خسارة تقدّر بحوالي 312 ساعة تعليمية سنوياً لكل طالب هذه الخسارة الزمنية تنعكس مباشرة على جودة التعليم وتضاعف العبء النفسي على المعلم، الذي يجد نفسه مطالباً بأداء مهامه بموارد زمنية ومهنية أقل.
في الوقت ذاته، يعاني المعلم من انقطاع الرواتب لسنوات أو صرفها بنسبة غير مكتملة دون مراعاة تآكل القيمة الشرائية (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024)، ما يحوّل رفاهه إلى مجرد وهم مؤسسي، هنا، يصبح رفاه المعلم قضية وطنية ترتبط بالاستقرار الاقتصادي والسياسي، وتمثل معياراً حقيقياً لمدى قدرة النظام التعليمي على الصمود والاستمرار.
ثانياً: رفاه المعلم بين الخطاب الدولي والواقع الفلسطيني
بحسب اليونسكو وفريق العمل الدولي المعني بالمعلمين من أجل التعليم حتى عام 2030 (2024)، فإن رفاه المعلمين يتأثر بالظروف المهنية، والضغوط النفسية، وغياب الدعم الكافي. وتعرف منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD,2020)، ومنظمة العمل الدولية (ILO, 2019) رفاه المعلم باعتباره نتاج بيئة عمل داعمة، وصحة نفسية جيدة، وتطوير مهني مستمر. ورغم أن هذه التعريفات تبدو إنسانية ومحايدة، إلا أنها تنطلق من فرضية عالمية زائفة: أن التعليم فضاء تقني منفصل عن السياسة والسيادة. في السياق الفلسطيني، حيث يعيش المعلم بين حصار غزة، وأسرلة القدس، والقيود اليومية في الضفة، تتحول هذه التعريفات إلى خطاب معزول عن الواقع، يُعيد إنتاج التبعية بدلاً من تحريرها. فالمعلم هنا لا يحتاج فقط إلى “جلسات دعم نفسي” أو “ورش تدريبية”، بل يحتاج أولاً إلى راتب منتظم غير منقوص، سيادة على المنهج، وحماية من القمع العسكري. إن تجاهل هذه الأبعاد يعني تحويل “رفاه المعلم” إلى مجرد مؤشرات رقمية لتقارير تمويلية، لا إلى مشروع وطني تحرري.
الأخطر أنّ هذا الخطاب الدولي يمارس ما يمكن تسميته الاستعمار المعرفي: حيث يُعاد تعريف هوية المعلم ووظيفته وفق معايير خارجية، ليُختزل إلى “مزود خدمة تعليمية” بدلاً من أن يكون صانع وعي ومثقفاً عضوياً في مجتمعه. هذا النمط من الاستعمار لا ينهب الأرض فقط، بل ينهب أيضاً معنى المهنة، ويمسخ التعليم من كونه عملية تحررية إلى كونه أداة للضبط الاجتماعي الممول من الخارج. وهكذا، يصبح “رفاه المعلم” في فلسطين إما مشروعاً تحررياً يستند إلى السيادة الاقتصادية والكرامة الوطنية، أو وهماً مؤسسياً يُعيد إنتاج الهشاشة ويُخفي التبعية. أي رفاهية لا تعترف بهذه الجدلية بين الاحتلال والسيادة إنما تساهم في استمرار الإبادة البطيئة للتعليم الفلسطيني.
وبذلك، يظهر أن الخطاب الدولي حول رفاه المعلم، وإن بدا إنسانياً وتقنياً في ظاهره، إلا أنه يظل قاصراً عن إدراك العمق السياسي والتاريخي لتجربة التعليم الفلسطيني. فكيف يمكن أن نتحدث عن رفاه معلم ما زالت رواتبه تُدفع متأخرة أو مجتزأة، وبنسبة لا تحميه من تآكل قوته الشرائية أمام التضخم وانهيار القدرة الاقتصادية؟ وكيف يمكن أن يكون للمعلم إحساس بالاستقرار بينما يفقد الطالب والمعلم معاً مئات الساعات التعليمية سنوياً بفعل تقليص الأيام الدراسية والحصص الزمنية، في ظل غياب أي تعويض مؤسسي جاد؟ ثم، أي رفاه يُمكن تصوره تحت سياق قمعي يجعل حركة المعلم مقيدة بالمعابر والحواجز والإغلاقات، ويجعل المدرسة نفسها هدفاً عسكرياً أو ميدانياً؟
هذه الأسئلة ليست مجرد جدل فلسفي، بل هي مفاتيح لفهم طبيعة الرفاه في السياق الفلسطيني: رفاه المعلم ليس رفاهاً نفسياً فردياً كما تصوّره الأدبيات الدولية، بل هو بنية سيادية تُجسد العدالة الاقتصادية، والاستقرار المهني، والكرامة الوطنية. إن أي محاولة لاختزال الرفاه إلى تطوير مهني تقني أو مؤشرات قياس صُممت في باريس أو جنيف، دون اعتبار لواقع الاحتلال والتمويل المشروط، ليست سوى وهم مؤسسي يُعيد إنتاج التبعية ويُعمّق الهشاشة. ومن هنا، يصبح رفاه المعلم قضية سياسية وتحررية في جوهرها؛ فهو ليس مجرد رفاه وظيفي، بل حق سيادي، وشرط أساسي لتحرير التعليم ذاته بوصفه مساحة للوعي والهوية والنضال الوطني.
ثالثاً: تصور متجذر للحل: رفاه المعلم كاستراتيجية وطنية للتحرر
إن رفاه المعلم الفلسطيني لا يمكن عزله عن الاستقلالية الوطنية والسيادة التعليمية. فهو ليس مجرد رفاه نفسي أو مهني، بل مؤشر حقيقي على قدرة المجتمع على صمود التعليم الفلسطيني في وجه الاحتلال، الضغوط الاقتصادية، وتآكل القوة الشرائية للرواتب. لذلك، أي حل يجب أن يكون متجذراً في السياق الوطني، ومتصلاً بالمقاومة الفكرية والاجتماعية، وتمكين المعلم كفاعل تربوي وطني وموثوق في بناء الوعي المجتمعي.
استعادة السيادة المالية والسياسية للمعلم: يجب دفع الرواتب المستحقة بالكامل، ومراعاة تآكل القوة الشرائية الناتج عن سنوات التأخير أو الصرف الجزئي، لتوفير أساس اقتصادي مستقر. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي إشراك المعلم في وضع السياسات التعليمية، ليس كمتلقي خدمات، بل كشريك حقيقي يساهم في صياغة التعليم الوطني المستقل. هذه الخطوة ليست رفاهية مالية فحسب، بل جزء من مشروع تحرري لإعادة المعلم إلى مركز السلطة التعليمية وضمان قدرته على أداء رسالته الوطنية.
إعادة الاعتبار الاجتماعي والثقافي للمهنة: المعلم هو صانع وعي ورافد ثقافي، لا موظف هش ضمن مؤسسة ضعيفة. تعزيز مكانته في المجتمع وتقديره لدوره الوطني يعيد بناء ثقافة احترام التعليم ودوره في الحفاظ على الهوية الفلسطينية. رفاه المعلم هنا يرتبط بالكرامة المجتمعية، ويعكس قدرة المجتمع على صون هويته في مواجهة الاحتلال والهشاشة المؤسساتية.
تعزيز المؤسسات الوطنية وتمويلها محلياً: بناء مدارس ومؤسسات تعليمية فلسطينية قوية ومستدامة، مرتبطة بالشركات الوطنية وأصحاب رؤوس الأموال الفلسطينيين، يجعل التعليم فعلاً وطنياً مستقلاً، بعيداً عن التبعية للتمويل الدولي. هذا الربط بين التمويل المحلي والسيادة التعليمية يحقق استقلالية العملية التعليمية ويحوّل رفاه المعلم إلى عنصر قوة وطنية.
التطوير المهني والتحرري: يجب أن يركز التدريب على الوعي النقدي، التحليل الاجتماعي والسياسي، القدرة على مواجهة تحديات الاحتلال، والمرونة في التعلم تحت ظروف صعبة، بدل التركيز على الكفايات التقنية المحدودة. هذا التطوير يحوّل المعلم من منفذ لبرامج خارجية إلى فاعل اجتماعي وقائد تربوي قادر على تحرير التعليم وبناء الوعي الوطني لدى الطلاب.
الربط بين الرفاه والسيادة الوطنية: رفاه المعلم لا يقتصر على الصحة النفسية أو بيئة العمل، بل يشمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمهنية. كلما زادت استقلالية المدرسة والمعلم في صنع القرار، كلما أصبح رفاهه حقيقياً، وعكس قدرة المجتمع على حماية التعليم واستمراريته.
إقرار واعتماد نظام مزاولة مهنة التعليم والرتب وفق قانون التعليم الفلسطيني رقم 8 لعام 2017: تصنيف المعلمين في رتب رسمية ومنحهم حقوقهم المهنية، يعيد لهم مركزيتهم الاجتماعية والمهنية، ويربط رفاههم بالسيادة المهنية، وليس بالاعتماد على برامج أو مؤشرات دولية.
إلغاء الخصومات على الرواتب وتأجيل استحقاقات القروض: لضمان استقرار مالي حقيقي للمعلم، والتخفيف من الضغوط الاقتصادية الناتجة عن تأخر الرواتب أو تآكل قيمتها الشرائية، مما يحول رفاه المعلم من وهم مؤسسي إلى ركيزة صمود التعليم الوطني.
تعزيز المشاركة المجتمعية والدعم المحلي: إشراك أولياء الأمور والمجتمع المدني، وتشجيع الشركات الوطنية وأصحاب رؤوس الأموال على تمويل التعليم، يعزز شعور المعلم بالمسؤولية المشتركة وبالقدرة على الصمود الوطني، ويحوّل التعليم إلى مشروع اجتماعي ووطني متكامل.
تحسين بيئة العمل المدرسية وتوفير الدعم النفسي: تأهيل المباني، توفير المواد التعليمية، وبرامج دعم نفسي للمعلمين لمواجهة الضغوط الناتجة عن الاحتلال والانقطاع المالي، يحوّل المدارس إلى فضاءات تعلم آمنة ومستقرة، ويجعل رفاه المعلم أداة لتعزيز صمود التعليم واستمراريته.
ختاماً، رفاه المعلم الفلسطيني ليس رفاهية شكلية، بل أفق تحرري ومؤشر على استقلال التعليم الوطني. هو حق المعلم في السيادة، دوره في المجتمع، وقدرته على بناء أجيال مستقلة وواعية. الانقطاع المستمر للرواتب، تآكل القوة الشرائية، تقليص ساعات الدوام، والتحديات الميدانية تحت الاحتلال، تجعل رفاه المعلم مؤشراً على صحة التعليم نفسه وعلى إمكانية التعلم والتحرر الوطني للطلاب. إنه مشروع وطني تحرري يعيد بناء التعليم ويستعيد الإنسان الفلسطيني، ويحوّل العملية التعليمية إلى فضاء للسيادة الوطنية والكرامة المجتمعية، بعيداً عن التبعية للممولين الدوليين والاحتلال.