
فلسطين ، أسطورة الوجود ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني
شِدّة وتزول… لكنها ليست مجرد شدّة، بل نبض الأرض في عروق الزمن. الجبال تتنفس صمتها، والأنهار تشق طرقها بلا كلل، تحمل على ضفافها ذكريات الأجيال وهمسات الحجر، كأن كل وادٍ يهمس بأسرار الحياة، وكل فجر يكتب نفسه على صفحة السماء بمداد الضوء. الأرض تتنهد، ليس لانكسار، بل لتعلن أن الذاكرة أعمق من الظلام، وأن الحياة أكثر ثباتاً من العواصف، وأن كل حجر وكل ظل وكل شجرة حاملة لسرّ الخلود.
في غزة، حيث البحر محاصر بالحواجز، تنهض الأرواح الصغيرة من بين الركام. الأطفال هناك ليسوا مجرد أطفال، بل كائنات أسطورية، تكتب من الهواء علامات الحياة، وتوقّع الزمن على الأرض بأقدامها. وجوههم تضيء الليل كما لو أن النجوم قررت النزول لتشهد على ما لا يُروى. كل نبضة قلب فلسفة صامتة، وكل رماد يُكتب عليه حلم شهادة على استمرار الوجود. الريح تحمل الغبار، لكنها تحمل أيضاً الوعد: “كل شمس ستشرق، وكل حجر سيحكي.”
في الضفّة، حيث الزيتون ينحني بالظل ويصنع من الصبر صرحاً، تمتد الجذور أعمق من أي جدار. الأرض ليست مجرد أرض، بل نص حي، كتاب مفتوح على الأزمنة. الجذور تتشابك كأوردة التاريخ، تحمل نبضاً خفياً يعيد رسم الفجر في صمت مهيب. الأغصان تلوح برقة، والحجارة تتلوى مع الريح لتصبح شعاعاً من الذاكرة، وكل زاوية تحمل سرّ الحياة، وكل ظلّ يهمس بالحكمة التي تتجاوز الزمن.
الحقول ليست أراضٍ فقط، بل مرايا للروح. الرجال والنساء يتنفسون السماء كأنها وعد بالخلود، يرسلون خفقات القلب إلى الأرض، وكل غيمة تهبط تحمل معنى. الحكايات تُنسج في الليل، والليل يحتضنها برفق، والقمر يراقب بخجل. فلا صمت إلا ليصبح همسة للرياح، ولا لحظة إلا لتغني في شعاع الفجر، فتتحول الحياة نفسها إلى أسطورة متوهجة، تجربة وجودية لكل من يعرف أن الأرض ليست مساحة فقط، بل كيان حي ينبض بالحياة والذكريات.
الأطفال يمشون بين الأنهار والجداول، يجمعون الحصى ويكتبون عليها أسماء الأحلام، يغنون للأرض والشمس والزيتون والجدار. أصواتهم نهر لا ينقطع، يملأ السماء والسهول والجبال بالمعنى. كل خطوة تجربة وجودية، كل ضحكة فلسفة صامتة، كل لمسة على الحجر إعلان للخلود، وكل نظرة إليهم رؤية للكون كله كما لو أنه مرآة لأرواحهم.
القدس، حيث المدينة تتنفس التاريخ، تتحرك الأزقة كأنها شرايين الزمن، تحمل دموع الحجارة وهمسات الرياح. كل صخرة كائن حيّ، شهود على العصور، تحفظ نبض البشرية، وتعلّم أن الروح أكثر ثباتاً من الجدران. القدس ليست مكاناً فقط، بل تجربة وجودية، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، والحلم بالواقع، والسماء بالأرض. كل قبة، كل قوس، وكل ظل يروي أسطورة لا تنكسر، وكل خطوة تحمل معنى خالداً يتجاوز المكان والزمان، ويهمس: “هنا يولد الفجر من جديد، هنا يتجدد المعنى، هنا تصنع الأسطورة نفسها.”
شِدّة وتزول… فالأسطورة ليست حكاية ماضٍ، بل دم يتوهج في الحاضر، قدر يعيد صياغة الأرض ويمنحها القوة، ليبقى الوطن دائرة لا تنكسر، شمسها تسري في العروق، وصوتها يردد في كل وادٍ وجبل: “لن تهزم الروح، ولن تطوى ذاكرة الحجر.” الوجود كله سؤال عن الحياة والخلود، والإنسان ليس جسداً، بل حضور متواصل في كل حجر، وكل شجرة، وكل وادٍ، وكل نسمة هو رسالة.
حين تلمس النجوم جبين الوطن، يحمل صوت الريح أنشودة الزيتون، يهمس للأنهار والسهول والجبال: “كل يوم يمر هو صفحة من الأسطورة، وكل قلب ينبض شعاعاً لا ينطفئ.” الظلال تتحرك، الأشجار تتنفس، والأطفال يجرون بين الحقول، تغني الطيور معهم. كل لحظة تجربة فلسفية، كل نسمة تذكير بأن الحياة لا يمكن كسرها، وأن الزمن نفسه خاضع لنفسية الأرض وأرواح البشر.
شِدّة وتزول… لكن الأرض باقية، والقصص باقية، والأطفال والحقول والزيتون والجبال يتنفسون نفس الأسطورة العميقة. أسطورة لا يعرفها الفناء، ولا يطويها الزمان، بل تتجدد مع كل فجر، مع كل نسمة، مع كل شعلة حياة. كل حجر، كل شجرة، كل وادٍ، وكل وجه صغير يحكي أن الحياة مستمرة، والفجر حاضر، وأن الأرض، مهما كانت شدّة الأيام، ستظل أسطورة لا تنكسر، وشمس فلسطين ستشرق دوماً على القلوب، لا على الخرائط فقط.