
دور المنظمات الحقوقية والإنسانية في مواجهة ” تجويع ” غزة ، دراسة حالة منظمة العفو الدولية ، بقلم : سالي أبو عياش
منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، تغيّرت معادلات العنف في غزة فما بدا في بداياته كحصار عسكري تحول سريعاً إلى سياسةٍ منهجية منظمة لحرمان الناس من ضروريات البقاء. فالمشهد لم يكن مجرد صورٍ مأساويةٍ متفرّقة، بل نمطاً متواصلاً من انقطاع الغذاء والدواء والوقود، مع ارتفاعات واضحة في مستويات سوء التغذية ووفيات مرتبطة بالجوع.
مؤسسات فنية أممية رصدت أن عتبات المجاعة قد تم تجاوزها في أجزاء واسعة من القطاع، وأن معدلات الاستهلاك الغذائي تدهورت بدرجة تجعل الواقع أقلّ من مجرد أزمة إنسانية: إنه انهيار منظومة حياة.
في مواجهة هذا الانهيار وقفت منظمات حقوقية معروفة، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية، لتوثيق ما جرى. تقارير العفو في منتصف صيف 2025 لم تكتفِ بسرد معاناة المدنيين؛ بل ذهبت إلى أبعد من ذلك: توصيف التجويع في غزة بأنه يُستخدم كسلاح حرب، وأن سياسات إدارتها لإدخال المساعدات والأغذية تُشكّل جزءاً من منظومة إضرار متعمد بالسكان. هذه التقارير استندت إلى شهادات ميدانية، صور، وتحليل لآليات التوزيع التي صيغت وإدارتها آليات عسكرية سياسية.
بعبارة أخرى، لم يعد الحديث عن إخفاق لوجستي عابر؛ بل عن قرارٍ مؤسسي يحدِّد من يصل ومن لا يصل إلى الطعام والدواء، ومع ذلك، وجود تقارير قوية لا يعني بالضرورة أن ثمة آلية فاعلة للمحاسبة أو لوقف التجويع فوراً. فالقانون الدولي واضح في حظر تجويع المدنيين كوسيلة حربية.
محكمة العدل الدولية أصدرت أوامرها الاحترازية بخصوص غزة عام 2024 مطالبةً بضمان دخول المساعدات بلا عوائق أمرٌ يضع التزاماً دولياً صريحاً على الأطراف وكلّ الجهات ذات الصلة. لكن هذه الأوامر تقف على شرطٍ واحد: أن تتوفر إرادة سياسية وتنفيذ فعلي من دول وهيئات قادرة على فرضها. في الحالة الفلسطينية، اصطدمت هذه الأوامر بجدران الشلل السياسي العالمي والتحيّزات الجيوسياسية التي أضعفت أي قدرة تنفيذية.
هنا تظهر مفارقة مؤلمة: المنظمات الحقوقية مثل العفو تقوم بدورها التقليدي توثيق الخطأ، وصياغة التوصيف القانوني، وإصدار بيانات تضغط سياسياً لكن أدواتها تبقى أدوات إعلان: تقارير، ندوات، مراسلات إلى هيئات أممية وصحف. أما الأداة التنفيذية الحقيقية تكمن في إغلاق معابر، فرض حظر أسلحة فعّال، أو سنّ عقوبات تربك حسابات صانع القرار فهي بيد الدول، وهيئات تتمتع بسلطة تنفيذية لا تمتلكها منظمات المجتمع المدني. وهكذا يتقاطع توثيق العفو مع معضلة بنيوية: أدلّة كافية، لكنّ قدرة محدودة على تحويل الأدلة إلى حماية مباشرة.
لا يكفي القول إن العفو لم تتحرّك؛ بل علينا أن نقرأ هذا الموقف في سياق أوسع أولاً: هناك قيود التمويل والعلاقات: منظمات دولية تعمل داخل فضاءٍ تملي عليه أسواق التمويل وصناديق التبرع قيوداً غير مباشرة، وتُقاس ردود فعلها أيضاً بمدى قدرتها على الحفاظ على وصولها الإعلامي والعملي، ثانياً: توجد ضغوط سياسية وموجة تشويه متعاقبة تستهدف كلّ من ينتقد سياسات إسرائيل؛ هذا المناخ يخلق حسابات مخاطر تجعل صياغة الاتهام القانوني الحاسم أكثر تعقيداً ويخشى منه المانحون، وأحياناً يدفع المنظمات لصياغات أقلّ قسوة من الواقع. ثالثاً، هناك رهانات عملية:
المنظمات الإنسانية التي تقدم الغذاء والدواء تحتكم لمبدأي الحياد وعدم التحيّز، فإذا غيّرت خطابها السياسي الحادّ قد تُحرَم من القدرة على العمل داخل الميدان، فيصبح السؤال الأخلاقي معقّداً: هل تُضحّي بالقدرة على الوصول مقابل تسمية الجريمة؟
لكن الواقع الميداني المزمن فيه الموت لا يحتمل الكثير من الحسابات البلاغية تقارير طبية وميدانية توثق حوادث مميتة قرب نقاط التوزيع، ومراراً تحدثت منظمات طبية عن إدارة التوزيع بشكل يحوّل مواقع الإغاثة إلى نقاط خطرة، بل أصفها البعض اليوم بأنها مواقع قتل منظمة لأن الناس يُقتلون أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء، هذه المعطيات إذا قُورنت مع تقارير التقييد المتعمد للسلع الأساسية تضعنا أمام استنتاج لا مفرّ منه: ثمة سياسة منظّمة للحرمان، وتأخر المحاسبة يطيل معاناة الملايين.
حين نضع منظمة العفو في بؤرة هذا المشهد نجد شيئاً مزدوجاً: من جهة، التزام مهني واضح بالتوثيق القانوني والبحثي، ومن جهة ثانية وضع علني لم يحوّل هذا التوثيق إلى ضغطٍ سياسي فعال يكفي لكسر آليات التجويع. السبب ليس ضعفاً أخلاقياً بقدر ما هو نتيجة تداخل عوامل: حسابات تمويلية، قيود الوصول التشغيلية، وحملة تشويه تعيد إنتاج تحالفات الدفاع السياسي عن أعمال الدولة. لكن هذا التبرير البنيوي لا يعفِي المؤسسات من مسؤولية أخلاقية؛ فحين تكون الأدلة على الطاولة وتظهر إمكانية تسيسها سياسياً، يصبح لزاماً على هذه المنظمات أن تتبنى استراتيجيات موازية: حشد شراكات برلمانية، دعم ملاحقات قضائية وطنية وعالمية، وحماية شهود وبَيّنات رقميّة تضمن استمرار المرافعات القانونية حتى حين تفشل السياسة.
منظمة العفو الدولية، رغم ما قدّمته من تقارير وشهادات دامغة على أن إسرائيل تستخدم التجويع كسلاح حرب، ظلّت أسيرة أدواتها التقليدية: التوثيق والمناصرة والبيانات، دون أن يتحول ذلك إلى حماية مباشرة للمدنيين. هذه المفارقة تُظهر عجز النظام الدولي عن تحويل الأدلة إلى فعل ملزم، وتكشف في الوقت ذاته مسؤولية أخلاقية لا يمكن للمنظمات التملص منها.
فالتجويع في غزة لم يعد سؤالاً عن الأدلة، بل سؤالاً عن الإرادة: من يملك الشجاعة لوقف جريمة موثقة تُرتكب على مرأى العالم؟ إن بقاء هذه الجريمة بلا محاسبة لا يعني سقوط الضحايا وحدهم، بل سقوط شرعية المنظومة الدولية بأكملها. وحتى يتحقق التوازن بين التوثيق والتنفيذ، ستبقى مسؤولية كسر الحصار الإنساني والسياسي ملقاة على الأصوات الحرة والجهات القضائية المستقلة التي تستطيع، بتكاتفها، فرض كلفة سياسية وقانونية على استمرار هذا النهج الممنهج.