
من عجلة التوكتوك وحصان العربة : غزة تتحرك بصعوبة ، بقلم : منى سامي موسى
في إحدى صباحات الحرب الثقيلة على قطاع غزة، تبدأ رحلة لا تشبه أي رحلة، إنها ليست نزهة ولا مشوار عمل اعتيادي. إنها معركة تنقل من مكان إلى آخر، معركة تخوضها النساء، الأطفال، الشباب، وكبار السن، في واقع لم يعد يحتمل.
أزمة المواصلات في غزة لم تعد مشكلة عابرة أو تفصيلًا ثانويًا، بل أصبحت واحدة من أبرز وجوه المعاناة اليومية. فمنذ بدء العدوان، وشحّ الوقود في القطاع، اختفت السيارات شيئًا فشيئًا من الشوارع، لتُستبدل بمشاهد غير مألوفة: توكتوك صغير يصرخ محركه تحت حرارة الشمس، أو عربة يجرّها حمار تحمل عائلة كاملة مع أكياس الدقيق وعبوات المياه.
في قلب هذا المشهد، تجد امرأة نازحة من شمال غزة، تحمل طفلتها الصغيرة في يد، وفي اليد الأخرى كيسًا من المساعدات حصلت عليه بعد انتظار طويل أمام التكية. لا وسيلة نقل تقبل أن توصلها حتى خيمة النزوح التي لجأت إليها. السائق يعتذر: “ما بقدر أوصل عالباب.. الطريق مسكّرة”. تنزل وتبدأ المسير، تجرّ خطواتها تحت شمس خانقة، وطفلتها تبكي من الإرهاق.
تتحدث أم محمد، نازحة في الأربعينات من عمرها، وتقول إن أبسط الأمور أصبحت تتطلب تخطيطًا واستعدادًا جسديًا ونفسيًا: “إذا بدي أروح أوصل ابني عالعيادة، بدي أطلع قبل ساعتين. التوكتوك صار يكلفني 20 شيكل، والمشي أوقات بيمرضني. أنا ظهري صار يوجعني، وإيدي تعبت من كثر ما بشيل مي وغسيل وأغراض. ما عاد في خصوصية ولا راحة”.
ولأن الحرب لا تفرق بين من يقود سيارة ومن يسير على الأقدام، فإن الجميع في هذه الأزمة سواسية. الشاب محمد، يعمل في المجال الانساني، يقول إنه يخرج من منزله في جنوب القطاع نحو العمل قبل ساعتين على الأقل. “بمشي، وبركب توكتوك، وبرجع أمشي، وكل يوم بحس إني بدي أنام أول ما أوصل الشغل، مش أشتغل”.
ما يجعل الأمر أكثر مأساوية هو أن هذه الوسائل “البديلة” – التوكتوك والعربة الحيوانية – ليست فقط متعبة وغير آمنة، بل مكلفة. التسعيرات تضاعفت، والسائقون لا يمكنهم تغطية كل المناطق بسبب الطرق المدمرة. والأسوأ أن هناك مرضى، أطفال وكبار سن، يجدون أنفسهم مضطرين للركوب في ظروف غير إنسانية للوصول إلى مستشفى أو مركز صحي.
أصبحت المواصلات عبئًا نفسيًا وجسديًا يضاف إلى قائمة طويلة من الأعباء اليومية التي تتحملها العائلات، وخاصة النساء. فالسيدة الغزية لم تعد فقط أمًا أو ربة منزل، بل أصبحت مسؤولة عن تأمين الماء والطعام والتنقل، في غياب زوج نازح أو معتقل أو عاجز.
المشهد في غزة اليوم لم يعد فقط مشهد حرب بالمعنى التقليدي، بل هو مشهد صراع يومي مع تفاصيل الحياة الأساسية: كيف ننتقل؟ كيف نتحمل حرارة الطريق؟ كيف نوصل مريضًا؟ كيف نصل إلى نقطة المياه أو المستشفى أو حتى لمكان آمن؟
هذه ليست مجرد أزمة مواصلات، إنها أزمة كرامة وحق إنساني أساسي. ومع استمرار العدوان، تبقى هذه الأسئلة دون إجابة، بينما الغزيون يستمرون بالسير… على أمل أن تعود الحياة إلى طبيعتها، ولو قليلاً.