
المدينة الإنسانية ، سجن جماعي بمباركة دولية ، بقلم : بديعة النعيمي
في الوقت الذي يعيش فيه قطاع غزة واحدة من أشد الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، تروج سلطات الاحتلال لمشروع يعرف ب “المدينة الإنسانية” كحل مؤقت لسكان القطاع. إلا أن ما يبدو في ظاهره ملاذا آمنا للمدنيين، يخفي في جوهره مساعي لإعادة تشكيل الواقع الديمغرافي في غزة، ضمن خطة ترحيل قسري مقنعة تحت غطاء الإغاثة.
وزير الدفاع الصهيوني، “إسرائيل كاتس”، أعلن عن نية إقامة المدينة في منطقة رفح المدمرة جنوب القطاع، بهدف استيعاب نحو مليوني فلسطيني بعد “فحص أمني” شامل، مع فرض قيود على حرية التنقل، إذ لن يسمح لمن يدخل المدينة بمغادرتها. وأشار إلى أن إدارة هذه المدينة ستسند إلى جهات دولية، واصفا المشروع بأنه “طوعي”.
لكن هذا الطابع “الإنساني” المزعوم، يخفي أبعادا سياسية وأمنية خطيرة. فالمدينة، بحسب عدد من المحللين الحقوقيين، تمثل محاولة لتجميع السكان في منطقة مغلقة ومحاصرة، في انتهاك واضح لمبادئ ما بسمى ب “القانون الدولي الإنساني”.
وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” رفضت المشاركة في هذا المشروع، معتبرة إياه “إهانة للكرامة الإنسانية”، في حين وصفت منظمات حقوقية دولية الخطة بأنها قد ترقى إلى “جريمة ضد الإنسانية”، لما تحمله بين طياتها من تهجير قسري وتغيير للطبيعة السكانية في القطاع.
وهنا لا ننسى أن سلطات الاحتلال لم تحترم في أي وقت سابق تلك المناطق التي أعلنتها “آمنة” خلال العمليات العسكرية، حيث ارتقى آلاف الشهداء في أماكن تم تصنيفها كمناطق “إخلاء إنساني”، بما في ذلك مدارس الأونروا ومستشفيات ومراكز إيواء.
التصريحات الصادرة عن مسؤولين في الحكومة والجيش الصهيوني تكشف النوايا الحقيقية خلف المشروع المزعوم. إذ صرح أحد القادة العسكريين أن “غزة بعد الحرب لن تكون كما كانت”، بينما دعا وزير الأمن القومي المتطرف المدعو “إيتمار بن غفير”، إلى “إعادة تشكيل الواقع الديمغرافي في جنوب فلسطين بالكامل”.
إن هذه التصريحات تؤكد أن “المدينة الإنسانية” ليست سوى أداة تهدف إلى تفريغ القطاع من سكانه وإعادة هندسة واقعه الجغرافي والبشري، وهي سياسة تتعارض مع أبسط معايير العدالة والحقوق الدولية الغائبة عن غزة خاصة وفلسطين عامة.
لكن ما يخططون له لن يتحقق، فشعب غزة لم ولن يقبل بمشاريع التهجير مهما اختلفت أسماؤها أو تنوعت واجهاتها. والمقاومة الفلسطينية، التي أربكت حسابات الاحتلال وألحقت بعصابات جيشه الخسائر الفادحة في الأرواح والعتاد، ستبقى حائط الصد الأول أمام مخططات الإخضاع والإفراغ السكاني.
غزة العصية على الانكسار، سترفض أن تكون مكعبات ليغو، يشكلها احتلال بغيض مثلما يريد ويديرها الغرب وتتحكم بها الولايات المتحدة الأمريكية، فإرادة الصمود أقوى من جميع أسلحتهم ودباباتهم، وعقيدة المقاومة أعمق من كل المخططات، ومن يراهن على كسر غزة فهو ليس إلا خاسر، والخاسر سيندحر يوما لأن الأرض تتقيأ الغرباء على مر التاريخ، وفلسطين لن تقبل إلا بأبنائها الشرعيين.