
النساء والأطفال في مواجهة تداعيات الحرب ، بقلم : آمنة الدبش
يشهد الشعب الفلسطيني إبادة جماعية ممنهجة أمام مرأى ومسمع العالم أجمع براءة تُسحق تحت الأنقاض وتُغتال بآليات القتل الصهيونية وأمهات ثكلى فقدن أبناءهن يحملن وجعاً لا يُرى ودمعاً لا يُقال.
أم واطفال بصيغة وطن
الحرب لا تقتل الأجساد فحسب بل تُمعن في قتل الأرواح بصمتٍ أشد فتكًا من القذائف والصواريخ وتجريد الإنسان من إنسانيته وتفكيك المجتمع وضربه في جوهره الإنساني والاجتماعي.
في حين أجبرت الأوضاع المأساوية المرأة الفلسطينية تحمل أعباء مضاعفة وحولتها إلى ركيزة يومية لحماية أبنائها بعد أن خذلتهم الحماية الدولية وسقط المعيل شهيداً أوسجيناً أو جريحاً في قلب العدوان، فلم تعد مجرد أم تحمل سمات ومفردات الأمومة بل أمٌّ بصيغة وطن هي المعيلة والحامية تحت تهديد القصف والجوع والخذلان.
أما أطفالنا فقد سُلبت طفولتهم مبكراً وحملوا أثقالاً لا تناسب أعمارهم خرجوا إلى الشوارع لا للعب بل للبحث عن لقمة تسد جوعهم وفي وجوههم ملامح نضوجٍ قسري رسمته الحرب وخذلهم فيه الصمت العربي ذلك الصمت الذي بات يشبه التواطؤ فلا بيان يُنقذ طفلاً من تحت الركام ولا شجب يُعيد أمًّا احتضنت ولدها شهيداً كأنهم وحدهم في معركة الوجود يُقاتلون بلا دروع… وبلا ضجيج.
الطفولة المؤجّلة
على ارصفة الطرقات أوقفتني قدماي للحديث معه الطفل احمد لا يتجاوز العاشرة من عمره اصفرت مقدمة شعره بفعل تواجده اليومي تحت حرارة الشمس يقوم بتعبئة المياه يومياً في أكياس شفافة ثم يقوم بتبريدها ومن ثم يبيعها على هيئة مكعبات ثلجية أثناء عودة المواطنين بعد عناء وشقاء من مراكز المساعدات اللاإنسانية منادياً بصوت متعب “ميه باردة..شيكل واحد ” تعينه أمه الأرملة وإخواته الصغار على ذلك وينتظرون عودته إليهم كل مساء بفارغ الصبر اقتربت منه وسألته بعض الأسئلة فبدء بالفضفضة متحدثاً لم يكن هذا حلمي كنت احلم بأن اكون على مقاعد الدراسة لكن الحرب اختارت لي طريقاً آخر فمنذ استشهاد والدي تغير كل شئ بحياتي باتت الأسرة بلا مأوى ولا دخل ولا أمان.
ولكن فجأة ارتجفت يد احمد وبدأ بالبكاء لم يصدر صوتاً كانت دموعه تنزل بصمتٍ جارح كأن قلبه انفجر من الداخل دون أن يسمعه أحد ، سألته بهدوء: ليش بتبكي؟ قال وهو ينظر للأرض “اشتقت لأبوي ما قدرت أكمّل”
تلك الجملة كانت كافية لتحرق كل شئ من حولنا، طفل لا يريد سوى أن يحكي أن يتنفس أن يتذكر لكن الحرب لا تترك له حتى فرصة الحنين.
نظرات بائسة
سميرة في الثلاثينات من عمرها سقط زوجها شهيداً في حرب لا ترحم لم تجد سميرة أمامها سوى أن تقف وحدها في وجه الألم تسير بخطى متثاقلة على أرض مكسورة تحمل على عاتقها مسؤولية إعالة أبنائها الثلاثة بنظرات بائسة تجلس أمام خيمتها المتواضعة على بسطة صغيرة عليها بعض الخضروات.
تفتح قلبها متحدثة بعيونٍ أنهكها الوجع” تحكي عن بيتٍ فقد دفأه وزوجٍ غيبته الحرب عن أيامٍ تمضي ثقيلة وعن صغارٍ تراقبهم بأعين تحترق من التعب وهم يلعبون بجانب الخيمة لا يفهمون سوا لماذا لا يعود والدهم..؟ تقول بحسرة وتنهيدة :”ما عندي وسيلة اخرى لازم أشتغل مشان أطعميهم.”
بيدها المتعبة تلوح بالبضاعة لمن يمر كل قطعة تُباع هي انتصار صغير في معركة البقاء كل مبلغ تجنيه يعيد إليها الأمل فرغم التعب والحزن الذي يختبئ خلف عينيها ويسكن ملامحها تبتسم لنا ولأطفالها وكأنها تقول: “أنا هنا سأظل صامدة لأجلكم.”
في كل زاويةٍ من زوايا غزة تُروى الحكايا بأوجاع ساكنيها تتنفس الجدران انينهم حكايا تُوشح بالدم وتكتب بالصبر والصمود والثبات ويسمع صداها في وجع الأمهات والأطفال.
لم تكن عمالة المرأة الفلسطينية والأطفال خياراً حراً بل ضرورة فرضها واقع العدوان المستمر والحصار والفقد في الوقت الذي يفترض فيه أن ينعم أطفالنا بالتعليم واللعب والاستقرار وأن تنشغل الأمهات بتربية أبنائهن في أمان وجدوا أنفسهم على أرصفة الشقاء والبؤس يتحملن أعباء الحياة بلا سند ومواجهة مسؤوليات تفوق طاقتهن لكن وسط كل هذا الظلام تظهر المرأة الفلسطينية كرمزٍ للصلابة ويكبر الطفل الفلسطيني قبل أوانه ليرسم صورة من الصمود والتحدي رغم كل محاولات الكسر والتجويع هي ليست مجرد معركة من أجل لقمة العيش بل معركة كرامة وبقاء في وجه احتلالٍ يسعى لتفكيك المجتمع من جذوره.