11:46 مساءً / 7 يوليو، 2025
آخر الاخبار

نعمة الامتنان والشكر: دهشة الوعي وارتقاء الروح ، بقلم: رانية مرجية

رانية مرجية

نعمة الامتنان والشكر: دهشة الوعي وارتقاء الروح ، بقلم: رانية مرجية

ما الامتنان؟ أهو مجرّد شعور عابر يشبه لحظة دفء في يوم بارد؟ أم هو، في جوهره، حالة وجودية تعبّر عن أرقى أشكال الوعي الإنساني؟ إننا لا نُبالغ حين نقول إن الامتنان هو فلسفة عيش، وهو موقف أخلاقي وروحي في آنٍ معًا، يستدعي مراجعة دائمة لكيفية حضورنا في هذا العالم.

في عصر باتت فيه القيم تتآكل تحت وطأة المادية المفرطة، يغدو الامتنان مقاومة صامتة. مقاومة ضد النسيان، ضد الجحود، ضد التشييء الذي يُحوّل الإنسان إلى كائن استهلاكي يطلب المزيد، دون أن يتوقّف لحظة ليسأل: هل ما لديّ الآن ليس كافيًا؟

الامتنان هو وعيٌ بما هو كائن، لا بما ينبغي أن يكون. إنه دعوة إلى النظر، لا إلى الأعلى دومًا بحثًا عن المزيد، بل إلى الجوانب، إلى الداخل، إلى العمق. الإنسان الممتن لا يعيش في ملاحقة دائمة للحظة التالية، بل يسكن اللحظة الحالية بكل ما فيها من غنى خفي لا يُدرك إلا لمن يرى بعين البصيرة.

ثمّة بعدٌ أنطولوجي للامتنان؛ فحين نشكر، نحن لا نمارس فعلًا اجتماعيًا فحسب، بل نُعيد تأكيد صلتنا بالوجود، نعلن انتسابنا إلى هذا الكون، لا كمستهلكين لما يقدّمه، بل كمشاركين في جدليته. نحن نؤكّد، عبر الشكر، أننا لا نأخذ كل شيء على أنه “مسلّم به”. إن الشكر يوقف الزمن للحظة، لنقول فيها: “أنا أعي ما أملكه، وأدرك قيمته.”

والشكر، بهذا المعنى، ليس ضعفًا ولا خضوعًا، بل هو أقصى درجات القوة. لأنه لا يصدر عن فراغ، بل عن امتلاء. لا عن حاجة، بل عن وعي. الشاكر لا ينحني، بل يسمو. والامتنان لا يُقلّل من الكرامة، بل يؤسّس لها.

إننا نشكر ليس لأن العالم كامل، بل لأننا ندرك هشاشته. نشكر لأننا نعي أن الأشياء قد لا تدوم، وأن ما نملكه اليوم ليس مضمونًا للغد. ومن هنا، يتحوّل الشكر إلى نوع من التأمل الميتافيزيقي، إلى يقظة دائمة لما هو زائل.

الفيلسوف الألماني هايدغر تحدث عن “الوجود نحو الموت”، عن كون الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعي فنائه. لكن ألا يُمكننا القول إن الامتنان هو الوجه الآخر لهذا الوعي؟ أنه اعتراف بأن كل لحظة قابلة للزوال، وبالتالي فهي تستحق أن تُعاش بكل ما فيها من شكر واحتفاء؟

إن ما نفتقر إليه اليوم ليس المزيد من المعرفة، بل المزيد من الحكمة. والامتنان هو حكمة متجسّدة في السلوك اليومي. هو أن تنظر إلى وردة على الرصيف فتمتن، أن تسمع صوت من تحب وتدرك النعمة، أن تمشي في شارع قديم فتشعر بأنك لا تمرّ فقط، بل تُلامس شيئًا من الوجود.

الامتنان هو فلسفة لا تُدرَّس في الكتب، بل تُكتسب عبر التجربة، وعبر الإصغاء الدقيق للحياة. هو شكرٌ لا يقتصر على اللسان، بل يتجذّر في طريقة العيش، في نظرتنا للآخر، في تصالحنا مع أنفسنا.

وفي الختام، إنني لا أكتب هذه الكلمات لأُجمّل فكرة قد تبدو بسيطة، بل لأُعيد تقديمها كما أراها: كركيزة روحية، كأداة تفكيك لعالم مضطرب، وكجسر بين الذات والعالم، بين القلب والكون.

ففي زمن الضجيج، لنكن نحن الهمس. وفي زمن التذمّر، لنكن الامتنان. وفي زمن السُرعة، لنكن الوقوف المتأمّل الذي يقول للحياة: “شكرًا، لأنكِ، رغم كل شيء، ما زلتِ تُدهشيننا.”

شاهد أيضاً

محافظ سلفيت يبحث مع قائد جهاز الارتباط العسكري عددا من القضايا المهمة

شفا – بحث محافظ سلفيت مصطفى طقاطقة، اليوم الإثنين، مع قائد جهاز الارتباط العسكري اللواء …