11:46 مساءً / 7 يوليو، 2025
آخر الاخبار

حين يغيب القانون ويُترك المواطن في مهبّ الريح: مظاهر الانفلات وتحديات استعادة ثقة المواطن وهيبة الدولة ، بقلم: د. عماد سالم

حين يغيب القانون ويُترك المواطن في مهبّ الريح: مظاهر الانفلات وتحديات استعادة ثقة المواطن وهيبة الدولة ، بقلم: د. عماد سالم


مجتمع على حافة الانهيار


في محطات التحول التاريخي الكبرى، لا تُقاس قوة الدول بحجم أجهزتها الأمنية، ولا بعدد قوانينها المكتوبة، بل بمدى احترامها لإنسانها، وفاعلية مؤسساتها في صون كرامته، واستجابتها لاحتياجاته، وقدرتها على حماية المجتمع من الانهيار الأخلاقي والاقتصادي والوجودي. وحين تُفقد هذه البوصلة، يبدأ الانحدار… لا فجأة، بل بصمتٍ تدريجيّ، تصاحبه علامات متفرقة سرعان ما تتراكم إلى أزمة وطنية شاملة.


في السنوات الأخيرة، بات المواطن الفلسطيني يعيش حالة من الانفصال الشعوري عن الدولة، ولم يعُد يشعر أن القانون يحميه، أو أن النظام السياسي يُمثله، أو أن المؤسسات التي وُجدت لخدمته ما زالت قائمة بوظيفتها. ومن قلب هذا الفراغ، خرجت ظواهر شاذة كانت تُعد سابقاً “استثناءات”، وأصبحت اليوم “أعرافاً”:


إننا لا نعيش فقط أزمة حكم أو اقتصاد، بل أزمة عميقة في المعنى ذاته للمواطنة والانتماء. أزمة يشعر فيها الإنسان الفلسطيني أنه أصبح بلا حماية، وبلا صوت، وبلا مستقبل واضح. وحين يُترك المواطن في مهبّ الريح، وتُرفع الدولة يدها عن وظيفة العدالة، يصبح الانفجار الاجتماعي احتمالًا واقعيًا، لا مجرد تحليل نظري.


هذا المقال محاولة لتشريح الواقع الذي نعيشه: ليس من باب التهويل، بل من باب المصارحة. سنقترب من تفاصيل الأزمة كما يعيشها الناس في يومهم العادي، ونغوص في الأسباب الهيكلية التي قادت إلى هذا الانفلات، ونقترح خارطة طريق للخروج من هذا المأزق الوطني الشامل. فالمعالجة تبدأ بالاعتراف، والتغيير يبدأ بقول الحقيقة، مهما كانت قاسية.
مظاهر الانفلات: مشاهد حيّة من الواقع


⦁ العنف ضد الطواقم الطبيّة
طبيب طوارئ يُضرب بوحشيّة في مستشفى حكومي بالخليل أثناء إنقاذه لمريض… الجناة يُخلى سبيلهم بكفالة، والطبيب يخرج بكسر في الجمجمة وكسور نفسية لا تُرى.
⦁ سطو مسلّح على البنوك
اقتحام متكرر لفرع بنكي في ترقوميا، وسط تساؤلات الشارع: كيف تُقتحم مؤسسة مالية في وضح النهار وتُسرق صناديقها بلا مقاومة؟ وأين الردع؟
⦁ استباحة رجال الأمن
على حاجز في بيت لحم، دهس متعمّد لشرطي مرور بعد تحريره مخالفة، وسط تزايد الحوادث التي تضع حياة عناصر الشرطة في خطر دائم.
⦁ تفشّي المخدّرات بلا رادع
مختبر لصناعة المخدرات يُكتشف في قلب حي سكني، وتلاميذ مدارس يُضبطون متلبّسين بترويج الحبوب المخدّرة، في ظل عجز واضح عن وقف سلاسل التهريب.
⦁ تسوّل الأطفال وتهديم الطفولة
أطفال بملابس ممزّقة، أعمارهم لا تتجاوز العاشرة، يستجدون السيارات عند الإشارات. أغلبهم محرومون من المدرسة، مهددون بالاستغلال، ومهجورون من شبكات الحماية.
⦁ الابتزاز البنكيّ والرواتب المجتزأة
موظفون حكوميون يتسلّمون رواتب شبه رمزية، معظمها يُقتطع سلفًا لصالح البنوك. النتيجة: حسابات سلبية، وشعور بالقهر، ودورة استدانة لا تنتهي.
⦁ الفساد كمنظومة مُقوننة
من التعيينات العائلية إلى المشاريع الوهمية، تتسع دائرة الفساد وتغيب المحاسبة. المواطن يتساءل: هل القانون مجرد أداة للضعفاء فقط؟
الجذور الهيكليّة للأزمة
أ‌ – أزمة ثقة وشرعية
غياب التمثيل الحقيقي، وانعدام الشفافية، وانسداد الأفق السياسي خلقوا فراغًا في الثقة لا تملؤه الخطب ولا البيانات.
74% من المواطنين لا يثقون بالحكومة، و 85 ٪ يعتقدون بوجود فساد متأصّل في مؤسساتها.
ب ‌- تآكل سيادة القانون
القانون موجود… لكن تطبيقه انتقائي، وتحقيق العدالة مرهون بالعلاقات لا بالنصوص. ما أضعف هيبة الدولة وأشاع الشعور باللامبالاة.
تراجع استقلال السلطة القضائيّة وغياب فاعلية العقوبات خلقا «تربة خصبة» لتكرار الجرائم.
ت ‌- ضائقة اقتصادية مركبة
ارتفاع البطالة، انهيار القوة الشرائية، الخصومات المستمرة على الرواتب، والتضخم… كلّها عناصر تصنع بيئة قابلة للانفجار.
البطالة تجاوزت 30 ٪ بعد فقدان 144 ألف وظيفة في الضفّة الغربية أواخر 2023؛ الديون الحكومية للمصارف ارتفعت إلى 6.42 مليار شيكل في شباط 2025، ما أدّى إلى شح السيولة وارتفاع التضخّم
ث‌ – فساد مُقنّن وممتدّ
تدوير ذات الوجوه في المناصب، وإضعاف مؤسسات الرقابة، وإفلات الفاسدين من المحاسبة خلقوا شعورًا واسعًا بـ”اللاأمل”.
ج ‌- غياب الحماية الاجتماعية
الضعفاء يُتركون لمصيرهم: لا ضمان بطالة، ولا مظلة للفقراء، ولا دعم حقيقي لأسر المهمّشين. التهميش يتحوّل إلى قنبلة اجتماعية.
انسحاب برامج الرعاية والتمكين بسبب نقص التمويل أطلق موجة تسوّل ومظاهر انحراف بين القُصَّر
:
حِينَ يَتَجَاوَزُ الفَرَاغُ الدَّولَة: مبادرات انفصالية تهدّد وحدة الوطن
من أخطر تجليات هذا الانفلات المجتمعي والسياسي، أن بعض المكونات المحلية بدأت تطرح مبادرات تُلمّح إلى تجاوز السلطة الوطنية كمرجعية، واستبدالها بصيغ عشائرية أو مناطقية تتجه نحو التكيّف مع الاحتلال، بل والارتباط المباشر به سياسيًا واقتصاديًا.
في الآونة الأخيرة، طُرحت مبادرات في بعض مناطق الجنوب الفلسطيني، تتحدث صراحةً عن الانفصال الرمزي والإداري عن الدولة الفلسطينية، والاعتراف بإسرائيل ككيان شريك، مع الدعوة إلى إنشاء كيانات محلية “بديلة”، ترتبط مباشرة باتفاقيات إقليمية مثل “اتفاقيات أبراهام”، وتروج لرؤية تضع المصالح الضيقة فوق الثوابت الوطنية.
هذه المؤشرات، وإن بدت فردية أو محدودة، تحمل في طياتها دلالات غاية في الخطورة، فهي تُعبر عن عمق الأزمة في بنية العلاقة بين المجتمع والدولة، وعن مدى ما وصل إليه بعض المواطنين من شعور باللاجدوى من البقاء ضمن منظومة يَرونها عاجزة عن حمايتهم أو تمثيلهم.
إن انكشاف مركزية الدولة وفقدان الثقة بالسلطة الرسمية يفتح الباب أمام تفكك الشرعية الوطنية، وتمزيق الجغرافيا السياسية، وتحوّل مشروع الدولة إلى مجرّد سردية متآكلة تتنازعها المصالح، والعشائر، والارتباطات الخارجية.
النتائج المدمرة… إلى أين نحن ذاهبون؟
⦁ انفلات أمني متزايد: الدولة تفقد قدرتها على السيطرة، ليس فقط على الشارع، بل على الوعي الجمعي. وكلما تغاضت السلطة عن جريمة، فهي تعلن صمتًا يُفسر بأنه إذن مفتوح بالتكرار.
⦁ هروب الاستثمار والكفاءات: مناخ الخوف وعدم الاستقرار يُنفر رأس المال، ويُحبط العقول، ويُسرّع هجرة الشباب المتعلّم إلى الخارج.
⦁ تزايد العنف الاجتماعي: الغضب المتراكم بلا أفق يتحول إلى عنف ضد النفس (إدمان، انتحار) أو ضد المجتمع (جرائم، تمرد، عصابات).
⦁ تآكل الشعور بالانتماء: أخطر ما يمكن أن يحدث لمجتمع هو أن يشعر الفرد بأنه غريب في وطنه، وأن لا جدوى من الإصلاح، وأن الفساد هو القدر.
خارطة طريق للخروج من المأزق
⦁ استعادة هيبة القانون
⦁ تطبيق القانون بلا انتقائية.
⦁ حماية الطواقم العاملة في القطاعات الحيوية.
⦁ تقليص فترة التقاضي وتفعيل المحاكم المتخصصة.
⦁ إصلاح القضاء والنيابة
⦁ فصل كامل بين السلطات.
⦁ رقمنة العمل القضائي.
⦁ إعادة الثقة من خلال الشفافية والسرعة.
⦁ العدالة الاقتصادية
⦁ وقف الخصومات القسرية.
⦁ إعادة جدولة القروض بفائدة عادلة.
⦁ تفعيل صندوق دعم الفئات المتضررة والأكثر هشاشة.
⦁ تمكين اقتصادي وتشغيل الشباب
⦁ إطلاق مشاريع بنية تحتية كثيفة العمالة.
⦁ دعم المشاريع الصغيرة.
⦁ تطوير التدريب المهني بما يتناسب مع سوق العمل.
⦁ شرطة مجتمعية وشراكة أهلية
⦁ تعزيز الشرطة المدنية كأداة حماية وليس قمع.
⦁ إشراك لجان الأحياء والمجتمع المدني في التوعية والرصد.
⦁ إطلاق خطوط ساخنة لبلاغات العنف والمخدرات.
⦁ مكافحة المخدرات والانحراف
⦁ حملات إعلامية ومناهج وقائية في المدارس.
⦁ مراكز تأهيل وربطها بفرص إعادة الدمج.
⦁ محاكم خاصة بقضايا المخدرات والإدمان.
⦁ عقد اجتماعي جديد
⦁ حوار وطني شامل.
⦁ ميثاق حقوق وواجبات جديد يُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة.
⦁ إعادة توزيع عادل للثروات والفرص.
الفرصة لا تزال قائمة… إن تحركنا الآن
ليست هذه المشاهد مجرّد حوادث معزولة، بل مؤشرات على بداية تفكّك الدولة من الداخل. إن لم نُبادر اليوم بإصلاح جذري، فغدًا لن يكون لنا ترف المعالجة.


نحتاج شجاعة في الاعتراف، وجرأة في المحاسبة، وحكمة في بناء شراكة جديدة مع الناس. فالمواطن ليس تابعاً للدولة، بل شريكها؛ وإذا فقد ثقته، انهار السقف على الجميع.

  • – د. عماد سالم – باحث وأكاديمي، وخبير التعليم والتدريب المهني والتقني وفي السياسات العامة والتنمية المجتمعية

شاهد أيضاً

محافظ سلفيت يبحث مع قائد جهاز الارتباط العسكري عددا من القضايا المهمة

شفا – بحث محافظ سلفيت مصطفى طقاطقة، اليوم الإثنين، مع قائد جهاز الارتباط العسكري اللواء …