4:43 مساءً / 4 يوليو، 2025
آخر الاخبار

التوحد ، بين دهشة الاختلاف وجمالية التنوع الإنساني ، بقلم : رانية مرجية

التوحد ، بين دهشة الاختلاف وجمالية التنوع الإنساني ، بقلم : رانية مرجية


مقدمة وجدانية


منذ اللحظة الأولى التي نلتقي فيها بطفلٍ لا ينظر في أعيننا، لا يرد التحية، ولا يلعب كما اعتدنا، يتسرب إلينا شعور غامض… ليس بالشفقة، بل بالتساؤل: “ماذا يرى؟ ماذا يشعر؟ من أي كون أتى هذا الكائن الذي يشبهنا لكنه لا يتكلم لغتنا؟”


إنه التوحد، أو كما أحب أن أسميه: سيمفونية الصمت والاختلاف.
في هذه الدراسة، لا أتناول التوحد كـ”اضطراب”، بل كنافذة مشرعة على عالم آخر، عالم يُدهشنا بفرادته، ويعيد تشكيل فهمنا للوجود، والتواصل، والمعنى.

أولاً: التوحد – المعنى العميق خلف الاصطلاح
1.1 التسمية والتحول المفاهيمي
التوحد (Autism) لم يكن يومًا مجرد تشخيص سريري، بل هو مرآةٌ عاكسة لتبايناتنا كبشر. نكتشف اليوم أننا نقف أمام “طيف” لا حدود له، وأننا جميعًا -بدرجة أو أخرى– على هذا الطيف.
التحول من مصطلح “الاضطراب” إلى “الاختلاف العصبي” ليس لغويًا فحسب، بل فلسفيًا وأخلاقيًا.

1.2 جذور التشخيص
منذ “ليو كانر” و”هانز أسبرجر” حتى علماء الأعصاب المعاصرين، تغيّر فهم التوحد من كونه انغلاقًا على الذات إلى كونه طريقة بديلة لفهم العالم… طريقة لا تقل شرعية أو روعة.

ثانيًا: أصول التوحد – الوراثة، الدماغ، والبيئة
2.1 الجينات كحكاية مكتوبة بحبر خفي
التوحد ليس خطأ جينيًا، بل تباين جيني. تتداخل أكثر من مئة منطقة جينية في تشكيل الدماغ التوحدي، فتنتج عنها شبكة أعصاب تعمل بتردد مختلف.
نحن لا نتعامل مع “خلل”، بل مع بنية دماغية متفردة، تستحق الاحترام، لا الشفقة.

2.2 البيئة كوشم على الحواس
ما يحدث في الرحم، ما تستنشقه الأم، ما تلمسه، بل حتى ما تحلم به، قد يكون جزءًا من قصة هذا الطفل التوحدي.
لكن رغم الأبحاث، تظل الأسباب غامضة، كأن الطفل التوحدي جاء ليعلّمنا أن العلم لا يستطيع تفسير كل شيء.

ثالثًا: ملامح الطيف – سلوكيات أم رموز؟
3.1 التواصل المختلف
هم لا يتهربون من التواصل، بل يختارون شكله. النظرة في العين قد تُربكهم، لكنها لا تعني اللامبالاة. بعضهم يتحدث ببلاغة، وآخرون يتواصلون بالصمت، باللون، أو حتى بإيماءة تُغني عن ألف كلمة.

3.2 التكرار: طقوس لا بد منها
هل رأيت طفلًا يدور حول نفسه؟ لا تسخر. ربما هو يحاول ضبط إيقاع داخلي مضطرب، أو يحاكي دوران الأرض حول الشمس!
في سلوكياتهم النمطية حكمة، وفي عزلاتهم دهشة خفية.

رابعًا: التوحد عبر أعين العلم والعاطفة
4.1 من الدماغ إلى الروح
التصوير بالرنين المغناطيسي كشف اختلافات في مراكز العاطفة والإدراك في دماغ التوحديين، لكن لم يكشف لنا ما يشعرون به حقًا.
العلم يرسم لنا خريطة، لكن وحده القلب يصل.

4.2 الأدوية: مهدئات أم أقنعة؟
تُستخدم أدوية لتقليل القلق أو فرط النشاط، لكنها لا تُعلّم الحب، ولا تزرع الثقة، ولا تفتح بابًا للحوار. ما يحتاجه المصاب بالتوحد ليس فقط العلاج، بل الاحتواء.

خامسًا: التدخل المبكر ليس إنقاذًا بل لقاء
5.1 التحليل السلوكي – بين الجدوى والجدل
طريقة ABA قد تنجح أحيانًا، لكنها تحتاج لتوازن، فالغرض ليس جعل الطفل “يشبهنا”، بل مساعدته ليكون هو نفسه، بأفضل نسخة ممكنة.

5.2 التربية الفردية: خريطة لكل نجم
لكل طفل توحدي خريطة لا تشبه غيرها. التعليم لا يجب أن يكون قالبًا جامدًا، بل مساحة تنبت فيها فرادته. بعضهم عباقرة في الرياضيات، وبعضهم يرسم العالم دون أن يتكلم.

سادسًا: الأهل – جنود الضوء في معركة الصبر
في كل بيت يحتضن طفلًا توحديًا، ثمة معركة يومية مع المفاهيم، والمجتمع، والتعب، وثمة أم تبكي في صمت، وأب يصلي ألا يُرفض ابنه في الحضانة.
لذلك، فإن تمكين الأهل ودعمهم النفسي ليس ترفًا، بل حق إنساني لهم ولأبنائهم.

سابعًا: التوحد في المرايا الاجتماعية
7.1 وصمة أم جهل؟
يُنظر إلى التوحد في بعض المجتمعات كمصيبة أو لعنة، لا كاختلاف طبيعي. الإعلام عليه مسؤولية، والمدارس عليها أن تفتح الأبواب لا أن ترفع الأسوار.

7.2 من التهميش إلى التمكين
يجب أن ننتقل من خطاب “الرعاية” إلى خطاب “الحقوق”. الأطفال التوحديون ليسوا عبئًا، بل طاقة إن أُتيح لها المجال ستفاجئ الجميع.

ثامنًا: التوحد والعبقرية – حين يرقص العقل على نغمة مختلفة
في التوحد، غالبًا ما نجد “متلازمة الموهوب” (Savant Syndrome). بعضهم يحفظ خرائط المدن من أول نظرة، وبعضهم يعزف مقطوعة كاملة بعد سماعها مرة واحدة.
هم لا “يتعلمون” كغيرهم، بل يتوهجون من الداخل.

تاسعًا: فلسفة الاختلاف – من الشفاء إلى القبول
التوحد لا يحتاج إلى “علاج” دائمًا، بل إلى تفهم. إلى نظرة لا تُقيمه بمقياس “الطبيعي”، بل تحترم إيقاعه المختلف.
مفهوم “الاختلاف العصبي” يغيّر المعادلة: لست ناقصًا، بل أنت نسخة فريدة من الكمال.

خاتمة: التوحد هو نحن… إن تجرأنا على الإصغاء


في النهاية، لست أكتب عنهم فقط، بل عنا جميعًا.
عن قدرتنا على التعدد، على الانفتاح، على تقبّل الآخر لا كظل لنا، بل كضوءٍ آخر في فسيفساء الوجود.
التوحد ليس ظاهرة طبية فقط، بل مرآة وجودية تسألنا: هل نعرف كيف نصغي لمن يتحدث بلغة مختلفة؟
هل نملك شجاعة الاحتضان دون شروط؟

نعم، التوحد صعب… لكنه جميل أيضًا، لأنه يعيد إلينا دهشة الإنسان.

شاهد أيضاً

40 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى

40 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى

شفا – أدى آلاف المواطنين، صلاة الجمعة، في المسجد الأقصى المبارك، في ظل الإجراءات العسكرية …