9:26 مساءً / 28 يونيو، 2025
آخر الاخبار

“في الطريق إلى البئر” لإبراهيم أبو عمّار ، الشعر كفنّ للنجاة من المحو ، بقلم : محمد علوش

"في الطريق إلى البئر" لإبراهيم أبو عمّار ، الشعر كفنّ للنجاة من المحو ، بقلم : محمد علوش

“في الطريق إلى البئر” لإبراهيم أبو عمّار ، الشعر كفنّ للنجاة من المحو ، بقلم : محمد علوش

حين تنام القرى في كتب التاريخ، ويُعاد رسم الجغرافيا بالحبر الملوّث، يأتي الشعر ليحفر خريطته بالحبر الصادق، ويمضي إلى البئر لا ليشرب، بل ليعيد لنا ماء الذاكرة، في زمنٍ تكاد الأسماء تُمحى من الذاكرة الجماعية، يخرج شاعر من تحت الرماد ليكتب أسماءنا على جدران القصيدة.


في ديوانه الثالث “في الطريق إلى البئر”، يقدم الشاعر الفلسطيني إبراهيم أبو عمّار عملاً شعرياً فريداً، لا يُقرأ فحسب، بل يُعاش، إنه ديوان يصوغ فلسطين من جديد، لا بوصفها جغرافيا مجردة، بل بوصفها كائناً حيّاً يسكنه الشعر، تنبض فيه رائحة البرتقال، وحنين العودة، وتفاصيل الوجع.


هذا الكتاب ليس شعراً للترف أو التجميل، بل شعرٌ وظيفته الأساسية أن يُبقي الذاكرة حية، وأن يعيد تسمية الأرض بلغة الحب والمقاومة، فقصائد المجموعة تسير بالقارئ في دروب القرى الفلسطينية المهدمة، لا باعتبارها أطلالاً وذكريات، بل باعتبارها أيقونات نابضة.


إبراهيم أبو عمّار لا يكتب من برجٍ عاجي، إنه يكتب من الأرض نفسها، يعرفها كما يعرف خطوط كفه: شجرة التين، مدخل المسجد، رائحة الزعتر، موضع المفتاح في جيب المختار.
في قصيدة “يافا”، يقول:


“لا تأخذني من هنا، فأنا أحب البحر،
ورائحة البرتقال تزحف من بيارات يافا التي لا زالت تسكنني”.

وفي “القدس”:
“يا حامي القدس،
ألقني على درج الكنيسة دون سيف من ذهب،
أعطني وعداً لأكتب كل اسم فوق أبواب المدينة”
هذه ليست مجرد صور شعرية، بل استعادة للمكان، ورفضٌ لأن يكون الغياب مصيراً نهائياً.


القرية التي في القصيدة من لحم ودم، ففي هذا الديوان، تتحول القرية إلى كيان حي، وإلى شخصية شعرية، وكل قصيدة تكاد تكون نُصْباً تذكارياً لقرية مهدّمة، وخريطة النكبة يعاد رسمها بالحبر والحنين، والقصيدة تأخذ موقع البلدة على خارطة الحرف.


صفد:
“جميلةٌ أنتِ يا صفد،
جميلةٌ رغم الجروح التي تزين أسماءكِ،
عنيدةٌ تقفين على قمةٍ تختفي”.
كفر لام:
“أنشد حبي فوق الدالية،
ونقرأ خارطة العودة،
ونتساءل عن ثالوث القدس ومن بات على حد صفد”.
الطنطورة:
“أتقيأ في حضرة الأمم المتحدة،
وطرابيش ملوك الصحراء،
وأصلي في مقبرة أهملتها الاتفاقيات”.
الدامون:
“قال: هنا نام الجنرال،
هنا مات الشيخ،
هنا سكت الغراب،
واختفى كل شيء”.


القصيدة كجغرافيا بديلة، ولا يكتفي الشاعر بالحنين، بل يبدع خريطة موازية، خريطة لا تحتاج إلى وثائق أو لجان، بل إلى قارئ يصغي، كل بيت في القصيدة هو عنوان لمنزل حقيقي، وكل شجرة مذكورة تنمو على حدود القلب.
في هذا الديوان، يلمح القارئ ظلال محمود درويش في تشبث القصيدة بالهوية، وملامح عبد الوهاب البياتي في ترميز المدن وتحويلها إلى رموز وجودية، لكنه لا يقلّدهما، بل يذهب إلى أعمق، إلى التفاصيل اليوميّة، حيث الوطن ليس شعاراً، بل حكاية بين الجدران.
في قصيدة “عكا”:
“أعدُّ التوابيت مرتبةً أمام المحراب،
واحدًا واحداً… وأنتظر الفجر والمدد”.
وفي “اللجون”:
“أسير وحدي
بين ركام البيوت وحجارة مقبرة
ينام فيها شهداء الثورة الأولى”.


الشعر عند إبراهيم أبو عمّار كفعل مقاومة، وقد كتب د. جوني منصور في تقديمه للمجموعة: “هذا الديوان لا يُقرأ كأدب فقط، بل كفعل مقاومة ضد الطمس، حيث تتداخل الذاكرة الفردية مع الجماعية، ويصبح الشعر تمثيلاً وجودياً للهوية”، ففي المقدمة انسجام واضح مع رؤية الشاعر، جاءت لتضع هذا العمل في سياقه التاريخي والثقافي.


هذا هو جوهر النص، أن القصيدة ليست لوحة تزيينية، بل وثيقة تحفر في الجدار الهشّ لذاكرة شعب، لتعيد بناء ما تم تهديمه.


والسؤال الأكثر أهمية، لماذا نحتفي بهذا الديوان، لأنه يوثّق النكبة بلغة إنسانية عالية، ولأنه يمنح القرى المهجرة جسداً لغوياً حياً، ولأنه يكتب عن الوطن دون خطابية، ويحتفي بالجمال رغم الألم، ولأنه كذلك يذكّرنا بأن الشعر لا يزال سلاحاً في معركة الذاكرة، وجسراً للعودة.


في الخاتمة، أود التأكيد أنني اقرأ هذا الديوان، لا كقارئ، بل كلاجئٍ يبحث عن اسمه في حجارة الطريق، وإذا لم تطأ قدماك يوماً صفد أو الطنطورة أو دير ياسين، لا تقلق، اقرأ هذا الديوان، وستشعر أن قدميك تبللتا بماء “عين الزيتونة”، وأنك تستظل تحت شجرة التوت على عتبة دارك القديمة.


“في الطريق إلى البئر” ليس كتاباً عادياً، بل وثيقة شعرية، ومرآة لذاكرة شعب، وسلاح هادئ لكنه قاطع، في زمن يحاول فيه العالم أن يُغلق الكتاب، لكن الشاعر يفتحه من جديد، ويدعونا أن نعود، بالكلمات، ثم بالخطى.

  • – صدرت المجموعة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت، ودار الفارس للنشر والتوزيع – عمّان، الطبعة الأولى 2025، مع لوحة الغلاف للفنان الفلسطيني سليمان منصور.
  • – محمد علوش – شاعر وكاتب فلسطيني .

شاهد أيضاً

إعلام إسرائيلي: الجيش سيبلغ نتنياهو أن العملية في غزة تستنفد أهدافها

شفا – من المقرر أن يُعقد غدا الأحد اجتماع أمني في قيادة المنطقة الجنوبية في …