
المسرح الفلسطيني في أراضي ال48: من الخشبة إلى الحكاية الجماعية ، بقلم : رانية مرجية
في مسرحٍ بلا ستارة، وسط واقعٍ سياسيٍّ محكوم بالتمزق والهويات المتنازعة، يقف الممثل الفلسطيني في أراضي الـ48، لا ليؤدي دورًا فحسب، بل ليحرس ذاكرة، ويُعيد تشكيل الوعي. هنا، في قلب المدن المهجّنة والقرى التي ما زالت تنزف صمتًا، بات المسرح فعلًا ثقافيًا، ومقاومةً ناعمةً، وجسرًا بين ما كان وما يجب أن يكون.
جذور تمتد إلى ما قبل النكبة
لم يكن المسرح غريبًا عن المجتمع الفلسطيني قبل نكبة 1948، لكن النكسة التي أحدثها التهجير والاقتلاع أوقفت عجلة الإبداع طويلًا، أو على الأقل، أجبرته على التواري. ومع ذلك، بدأ المسرح يتسلل مجددًا من بين الأنقاض، خاصة في مدن الداخل كحيفا والناصرة ويافا، حيث نجحت بعض المبادرات الفردية والمؤسسات الثقافية الوليدة في بعث الحياة في الخشبة من جديد.
مسرح بلا دولة… لكنه مليء بالوطن
أبرز ما يميز المسرح الفلسطيني في أراضي الـ48 هو كونه يعمل خارج سياق دولة حاضنة أو مؤسسة ثقافية وطنية جامعة. لا وزارة ثقافة فلسطينية تدعمه، ولا دولة مستقلة تحمي خطابه. ورغم ذلك، بل ربما بفضله، استطاع هذا المسرح أن يبني لنفسه هوية خاصة، متأرجحة بين الداخل والخارج، بين المحلّي والكوني، بين النكبة والنكسة والنهوض.
من هنا يمكن فهم التحولات التي طرأت على مضامين العروض المسرحية، حيث تحولت المسرحيات من النصوص الواقعية البسيطة إلى أعمال درامية عميقة تطرح قضايا الهوية، اللغة، التهجير، والعلاقة مع “الآخر” الإسرائيلي، وأيضًا العلاقة مع الذات الفلسطينية المنقسمة بين الداخل والشتات.
مسارح تصنع الذاكرة
من مسرح “الحنين” إلى “الميدان” في حيفا، ومن “مسرح عكا” إلى مبادرات “مسرح السيرة” و”الخشبة” في الناصرة، يمكن رصد حراكٍ فنيّ متنوع، يحاول أن يكون منصّة للأصوات المهمشة، ومرآةً لواقع الداخل الفلسطيني المركّب.
ولعلّ تجربة مسرح الميدان، الذي أسسته مجموعة من الفنانين الفلسطينيين عام 1994، تُعدّ الأبرز من حيث المهنية والرسالة. فقد قدم هذا المسرح أعمالاً أثارت جدلاً سياسيًا واسعًا، لا سيما تلك التي تناولت الأسرى الفلسطينيين، والتهجير القسري، والمقاومة الثقافية.
سؤال اللغة والهوية
يطرح المسرح في الداخل سؤال اللغة بحدة: هل نكتب ونمثل بالفصحى أم بالعامية؟ وهل نخاطب الجمهور الفلسطيني في الداخل فقط أم نترك أبوابنا مفتوحة للجمهور اليهودي أيضًا؟ هذه التساؤلات لا تندرج ضمن جدالات لغوية بل تعكس مأزق الهوية في ظل واقع سياسي ملتبس.
في كثير من الأحيان، كانت اللغة العامية الفلسطينية هي الأداة الأقرب لوجدان المتلقي، لكن بعض الأعمال سعت إلى كسر هذا القالب، والانفتاح على الفصحى، بل وحتى على العبرية، ليس تطبيعًا، بل مواجهة وتفكيكًا للغة الخصم.
المسرح كمساحة شفاء
لا يمكن تجاهل الدور العلاجي الذي يؤديه المسرح في مجتمع يعيش تحت القهر القومي والثقافي. إن الجلوس في قاعة مسرح مظلمة والاستماع إلى قصة تشبه حياتك، تحمل ملامح وجهك، وتتحدث بلسانك، هو في حد ذاته شكل من أشكال الاستعادة النفسية. ولهذا، لم يكن غريبًا أن نشهد تطورًا في المسرح التربوي والعلاجي في مدارس وكليات الداخل، ليصبح أداة لتمكين الشباب ومواجهة العنف المجتمعي.
نحو مسرح حرّ، لا مُستَلب
المسرح الفلسطيني في أراضي الـ48 لا يطلب إذنًا من أحد، ولا يرضى بالقوالب الجاهزة. إنه يسائل الاحتلال، ويعرّي التواطؤ، ويخاطب الإنسان قبل المتفرّج. لكنه، في ذات الوقت، يصارع للبقاء وسط تقلّص الموارد، وانعدام الدعم الرسمي، والرقابة السياسية التي تتربص بكل جملة خارجة عن “الإجماع” الإسرائيلي.
ومع ذلك، يواصل هذا المسرح النبيل صعوده. لا بالمنح والدعم، بل بما تبقى من إيمانٍ بالخشبة، وبأن الفلسطيني، وإن مُنِع من امتلاك الأرض، لا يمكن منعه من رواية الحكاية