10:00 مساءً / 8 مايو، 2025
آخر الاخبار

حين يُربّينا الألم وتُهذّبنا النعمة ، رحلة القلب إلى الله ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

حين يُربّينا الألم وتُهذّبنا النعمة: رحلة القلب إلى الله ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

حين يُربّينا الألم وتُهذّبنا النعمة : رحلة القلب إلى الله ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

في متاهات الحياة، حيث تتلاطم أمواج الأقدار، وتتعاقب الأيام ما بين مدٍّ وجزر، وبين نورٍ وظلمة، تتجلّى أمامنا حكمةٌ ربانيةٌ خالدة، تهمس في أذن القلب: “كلُّ ما يمرُّ بك، نعمةٌ كانت أو نقمة، إنّما هو درسٌ سماويٌّ يُنقّي روحك ويقودك نحو الله”. فالحياةُ ليست مشهداً عابراً، بل مسرحُ ابتلاءٍ تتقلب فيه الأدوار، وتتشكل فيه النفوس، ويُصقل فيه المعدن الأصيل كما يُصقل الذهب في بوتقة النار.

كم من نعمةٍ أُهديت إلينا فغرتنا، وكم من عطيةٍ ألّهتنا عن واهبها، حتى استحالت النعمة إلى حجابٍ يحجب نور الفطرة! وكم من مصيبةٍ هبّت على قلوبنا كريحٍ عاتية، فإذا بها تحمل بين طياتها مفاتيح العودة، وتفتح أبوابًا لم نكن لنطرقها إلا حين ضاقت بنا الأرض بما رحبت. نعم، فالمصيبة ليست شرّاً مطلقاً، بل هي يدُ العناية الإلهية تمسح على القلب لينهض من غفلته، وتوقظ فيه نور الرجوع إلى أصل الحكاية.

ألا ترى كيف يقولون: “كل كسرٍ أوجعك، فهو جبرٌ إن حاكلك إلى الله”؟ عبارةٌ تختصر سِفراً من الفهم العميق، تُخبرنا أنّ الألم في ميزان الله ليس عذاباً، بل هو مِعراج، يُطهّر القلب ويُنقي الروح. فما أوجعك اليوم قد يكون نبعَ يقينٍ غداً، وما هزّك من الداخل قد يكون أصلَ الثبات فيك. كأنما يُعيد الله ترتيب روحك بما يليق بجنّته، ويهديك بالحزن إلى الفرح الأبدي.

يقول الله تعالى في محكم كتابه:


﴿وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: 168].


فانظر كيف يتجلّى الامتحان في لباسين: ثوبٍ من حرير النِّعَم، وآخر من شوك الابتلاء، ليختبر الله صدق التوجُّه، لا رخاوة الحال. فالنعمة قد تكون استدراجاً لمن طغى، والبلاء قد يكون اصطفاءً لمن ارتقى. وما أعظم من نظر إلى الدنيا بعيون الآخرة، ففهم أن كلَّ ما فيها زائل، وكلَّ ما عند الله هو الأبقى.

وفي هدي الحبيب ﷺ نقرأ أعظم درسٍ في الرضا:


“عجباً لأمر المؤمن، إنّ أمره كلّه خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له”.

فما أبهى هذه الفلسفة الربانية! حيث لا تُقاس الأمور بالمقاييس الأرضية، بل بموازين الثبات واليقين. فالصبر جناح، والشكر جناح، وبهما يُحلّق المؤمن فوق هموم الدنيا نحو رضوانٍ لا يغيب، وسكينةٍ لا تُقهر.

ليس في هذه الدار خلود، ولا فيها كمال، فهي دار عبور، وزادها الإيمان، ورُفقتها حسن الظن، ومقصدها الله. من فهم حقيقتها، عاش مطمئناً، وإن ضاقت عليه السبل. ومن أيقن أن خلف الألم باباً من نور، استراح قلبه وإن تكسّرت أضلاعه.

فاجعل من كل نعمةٍ طريقاً إلى السجود، ومن كل بلاءٍ سلّماً إلى الصعود. لا تجعل من عطايا الدنيا وسادةً تغفو عليها، ولا من مصائبها سجناً يُقيّدك. بل كن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رضي الله عنه–، وقد زهد في الدنيا وما فيها:
“ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي في صدري، وبستاني في قلبي، أينما ذهبت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.”

فليكن قلبك جنة، وعقلك منارة، وأفكارك جناحين يحلقان بك إلى علاء الرضا. إنك لا تصنع سعادتك بالمكان، بل بالإيمان؛ ولا تبني طمأنينتك بما تملك، بل بما ترضى؛ فأنت حيث يكون قلبك، فإن كان مع الله، فكل الأرض جنة.

رحلة الحياة لا تحتاج إلى زادٍ من الذهب، بل إلى قلبٍ راضٍ، ونفسٍ صابرة، ويقينٍ يُنبت الأمل في صخر الابتلاء. فلتكن حياتك رحلةً إلى الله، لا تعثرك فيها النعم، ولا تُثنيك المصائب، بل يكون كل ما فيها خطوةً في درب الرجوع، ونفَساً في طريق الوصال، ودرجاً تصعد به إلى رحمته ورضوانه.

شاهد أيضاً

الصين وروسيا تتعهدان بالدفاع عن نتائج انتصار الحرب العالمية الثانية

الصين وروسيا تتعهدان بالدفاع عن نتائج انتصار الحرب العالمية الثانية

شفا – اتفقت الصين وروسيا اليوم الخميس على الدفاع بحزم عن نتائج انتصارات الحرب العالمية …