
.
حين تتزيّن فلسطين بذاكرة المكان: قراءة في قصيدة “عنبتا… عروس السهل وحلم البحر” ، بقلم: رانية مرجية
مدخل: عنبتا كذاكرة وهوية
في قصيدة الدكتور عبدالرحيم جاموس، تتحول عنبتا من مجرد بلدة فلسطينية إلى أيقونة كونية تختصر الوطن في أبهى صوره. النص يتجاوز وصف الطبيعة ليصوغ علاقة الفلسطيني بالأرض كعلاقة وجودية، يشتبك فيها الحنين بالهوية، والذاكرة بالحلم. عنبتا ليست جغرافيا محلية، بل بوابة الروح إلى الوطن، حيث الزيتون يعانق الشمس، والبحر لا يكتمل إلا بفلسطين.
جمالية الصورة الشعرية
يستحضر الشاعر في نصه لغة مشبعة بالرموز والدهشة، حيث يصبح الرصيف كائنًا حيًا يبتسم بالبنفسج، والزيتون يمد يده لمصافحة الشمس. هذه الصور لا تصف الطبيعة فحسب، بل تؤنسن المكان وتجعل منه شاهدًا على الحلم الفلسطيني. إنَّ عنبتا هنا ليست مجرد بلدة، بل جسرٌ بين الأرض والبحر، بين الذاكرة والخلود.
الحنين كجوهر النص
النص مكتظ بعبارات الحنين التي تستدعي الطفولة والبراءة الأولى: “إليك أحن كأنفاس الطفولة”. الحنين هنا ليس شخصيًا فقط، بل جماعيًا يعكس شوق شعب بأكمله لبيوته وحقوله وأشجاره. بهذا المعنى، تصبح القصيدة سجلًا وجدانيًا للذاكرة الفلسطينية، يحاول من خلاله الشاعر أن يُعيد للوطن ملامحه المفقودة، ويثبت أن الحلم ما زال نابضًا رغم كل محاولات المحو.
الفلسفة الكامنة: الوجود والمكان
القصيدة تطرح جدلية فلسفية عميقة: هل المكان مجرد حدود جغرافية، أم أنه امتداد للروح؟ في “عنبتا”، نجد أن المكان يتجاوز مادّيته ليغدو ميتافيزيقيا انتماء، حيث الأرض تتحول إلى رمزٍ للخلود، والبحر إلى أفقٍ للحرية. إنّه تأكيد شعري أن الهوية الفلسطينية ليست حادثًا عابرًا، بل ثابت وجودي يتجاوز الزمن والمكان.
البعد الإنساني والكوني
جمال هذا النص أنه لا يقف عند حدود فلسطين، بل يلامس كل إنسان على وجه الأرض. كل من فقد أرضه أو ابتعد عن جذوره سيجد نفسه في هذه الكلمات. إنها قصيدة تُحيل القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية شاملة: حق الإنسان في أن يحلم، أن ينتمي، وأن يحافظ على ذاكرة مكانه.
خاتمة
“عنبتا… عروس السهل وحلم البحر” ليست مجرد قصيدة عن بلدة فلسطينية، بل بيان شعري عن هوية لا تموت. عنبتا في النص هي صورة مصغرة عن فلسطين كلّها: وردة الوطن التي لا تذبل، والحلم الذي لا يشيخ. النص يجمع بين الوجدان والفلسفة، بين الشعر والتاريخ، ليُؤكد أن الأرض ستظل تحمل ذاكرة أبنائها، وأن البحر سيبقى ينتظر اكتماله بفلسطين.
النص موضوع القراءة:
عنبتا… عروسُ السهلِ وحلمُ البحر
نصّ بقلم: د. عبدالرحيم جاموس
إليكِ أحنُّ كأنفاسِ الطفولة،
وأراكِ في زهرِ الطريقِ …
وهمسِ الريح،
وفي ظلِّ الزيتونِ العتيقِ …
الممتدِّ في ذاكرةِ القلب….
عَنبتا يا مَدخَلَ الحُلمِ الأنيقِ،
تَستَفيقُ الزُّهورُ …
في دَربِ العاشِقينَ،
يَبتَسِمُ الرَّصيفُ …
بالبَنَفْسَجِ حينَ يَلوحُ الصَّباحُ،
ويُصافِحُ الزَّيتونُ …
شَمسَ اليَقينِ …
مِنَ الشَّرقِ يَمتَدُّ سَهلُكِ …
أَخضَرَ كالوَتَرِ،
يَنحَني لِلوِهادِ،
ويَعلو على القُرى والقَمَرِ،
حَتّى إذا ما بَلَغَ الغَربَ،
اِنثَنى عِندَ البَحرِ ،
فَوَحَّدَ بَينَ زُرْقَةِ الماءِ …
وخُضْرَةِ العُمْرِ….
يا عَنبتا…
يا جِسْرَ الرُّوحِ …
بَيْنَ الأَرضِ والبَحْرِ،
تَبقَيْنَ وَرْدَةَ الوَطَنِ في صَدْرِهِ،
وحُلْمًا لا يَشيخُ،
ولا بَحرَ يَكتَمِلُ …
إلّا بِفِلَسطينْ…. !
د. عبدالرحيم جاموس