
“أم يوسف ( تحرير حثناوي )… صديقة الدراسة ورفيقة الأيام” بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في دروب الحياة، تمرّ بنا أرواحٌ تترك فينا أثرًا لا يُمحى، أشخاصٌ يشبهون النور في عتمة الأيام، ونسمةً باردةً في صيفٍ قائظ. وهكذا كانت أم يوسف، امرأةٌ تجسّد في شخصيتها صورة الأم الحقيقية، التي تحيط أبناءها برعاية تفوق الوصف، وتزرع فيهم القيم والأخلاق كما يُغرس الورد في تربةٍ طيبةٍ خصبة.
عرفتُها أول مرة حين كان ولداها، يوسف وأحمد العتوم، طالبين في مركز تاليا للتميز، حيث كنتُ أدرّسهم محادثة اللغة الإنجليزية. من اللحظة الأولى، شدّني حرصها النادر ومتابعتها الدقيقة لكل تفاصيل تعليمهم، حتى كأنها تبني لهم مستقبلًا بيديها حجرًا حجرًا. كانت تسأل عن الدروس، تتابع تقدمهم، تتأكد من أن كل دقيقةٍ في يومهم لها معنى، تقسّم الوقت بذكاء الأم الحانية والمعلمة الحكيمة، فلا يضيع لحظةٌ من وقتهم إلا وهي تحمل فائدةً لهم. والأجمل من ذلك، كان حرصها على تحفيظهم القرآن الكريم، فقد حفظا أكثر من عشرة أجزاء، وكانا مثالًا في الأخلاق والتواضع، وكأنها زرعت في قلوبهم حب العلم والإيمان معًا، فساروا في دربٍ يجمع النورين: نور العلم ونور الدين.
مرت الأيام، وحدث ذات يومٍ أن أصيب يوسف بجرحٍ في يده أثناء وجوده في المركز، مما استدعى نقله إلى المشفى. كان القلق يعتصر قلبي عليه، فأجريت اتصالًا بوالدته، محمّلةً بالخوف والرجاء، لكن صوتها الهادئ وقلبها الكبير كانا كبلسمٍ مطمئن. لم يهدأ لي بال حتى قررتُ الذهاب مع المعلمات لزيارته والاطمئنان عليه في بيته، وهناك حدثت المفاجأة الكبرى: أم يوسف ليست مجرد أم أحد طلابي، بل كانت زميلتي وشريكتي في مقاعد الدراسة!
كم كان اللقاء دافئًا، وكم كانت الفرحة عميقة! كأن الزمن عاد بنا إلى أيامنا الأولى، إلى تلك الأيام التي كانت تجمعنا بين الكتب والطموحات والأحلام. وها نحن نلتقي من جديد، ولكن في مشهدٍ مختلف، حيث أصبحتُ معلمَةً لابنها، وهي الأم الحانية التي تتابع كل تفاصيل نجاحه.
مرت السنوات، ولم تكن أم يوسف مجرد صديقةٍ عابرة، بل بقيت كما كانت دائمًا: نعم الأخت ونعم الصديقة، لم تتغير ملامح طيبتها، ولم ينقص دعمها لي يومًا، بل كانت من أكثر من يساندني في مسيرتي، تتابع مقالاتي، تقرأ كتبي، تشجعني بكلماتها المضيئة، وتمنحني من طاقتها الإيجابية بكرمٍ لا ينضب.
شكرًا أم يوسف…
شكرًا لأنكِ أثبتِ أن الصداقة لا تُقاس بالزمن، بل بالأثر الذي يتركه الإنسان في القلوب.
شكرًا لأنكِ كنتِ ولا تزالين النور الذي يضيء الزوايا المعتمة في الأيام، وشكرًا لأنكِ من أولئك الذين يمرّون في حياتنا، لكنهم لا يرحلون أبدًا، لأن أثرهم خالدٌ في الذاكرة والوجدان.
