
الانتحار بيننا ، سؤال الحياة حين تخذلنا اللغة ، بقلم : رانية مرجية
الانتحار ليس حدثًا، بل سؤالًا أخلاقيًا معلّقًا في الهواء.
ليس فعلًا فرديًا بقدر ما هو نتيجة عالمٍ لم يعرف كيف يكون بيتًا، ولا كيف يُنصت حين كان الإنصات ضرورة وجودية لا ترفًا إنسانيًا.
كل شاب ينسحب من الحياة لا يهرب من الموت، بل يفرّ من حياة لم تعد تُحتمل. من ثقلٍ داخلي لا يُرى، ومن شعورٍ مزمن بأن الوجود صار عبئًا، وأن النجاة فعلٌ مؤجَّل إلى أجلٍ لا يأتي.
النفس حين تُستنزف بصمت
نفسيًا، لا يولد الانتحار من لحظة واحدة، بل من تآكل بطيء للمعنى.
يتراكم التعب، وتتقلص القدرة على الاحتمال، ويغدو الصمت لغة يومية. ليس لأن الشاب لا يريد الكلام، بل لأنه تعلّم أن الكلام لا يجد من يسمعه.
في عالم يُكافئ القسوة ويُعاقب الهشاشة، يتعلم الإنسان أن يخفي ألمه، أن يُجيد التماسك، وأن يرتدي وجوهًا صالحة للاستهلاك الاجتماعي. ومع الوقت، يصبح هذا التماسك قناعًا خانقًا، ويصير الصمت أكثر إيلامًا من الألم نفسه.
الإنسان قبل التفسير
نُخطئ حين نُسارع إلى الفهم، قبل أن نُحسن الحضور.
نُحلّل أكثر مما نحتوي، ونُكثر من النصائح لأننا نفتقر إلى الشجاعة الكافية للإصغاء.
الإنسان الموجوع لا يبحث عن تفسيرٍ علمي لوجعه، بل عن اعترافٍ بإنسانيته. عن علاقة لا تُخضع ألمه للمساءلة، ولا تُقايضه بالصبر أو الامتنان.
حين يُترك الإنسان وحيدًا مع وجعه، يبدأ في الاعتقاد بأن غيابه أقل إزعاجًا من بقائه. وهذه ليست فكرة مرضية، بل نتيجة منطقية لعزلة طويلة.
المجتمع: حين تتحول القسوة إلى بنية
المجتمع الحديث لا يقتل أفراده مباشرة، بل يُنهكهم ببطء.
بخطابه التنافسي، وصوره المثالية، ومعاييره الصارمة للنجاح، يخلق شعورًا دائمًا بعدم الكفاية. ثم يندهش حين ينهار من لم يعد قادرًا على اللحاق.
وسائل التواصل، بدل أن تكون فضاء تواصل، تحولت إلى مسرح مقارنة دائم، تُقاس فيه القيمة بما يُعرض، لا بما يُعاش. أما الوصمة المرتبطة بالصحة النفسية، فتُكمل الحلقة: تُجبر المتألم على الصمت، وتُدين من يطلب المساعدة.
هكذا يصبح الألم تجربة فردية، بينما أسبابه جماعية بامتياز.
الوقاية: استعادة الحق في الهشاشة
الوقاية من الانتحار لا تبدأ عند الحافة، بل في العمق.
في اللغة التي نستخدمها، في نظرتنا إلى الضعف، وفي استعدادنا للاعتراف بأن الإنسان لا يُختزل في قدرته على التحمل.
أن نُعيد الاعتبار للهشاشة لا يعني تمجيد الألم، بل تحرير الإنسان من خجله من ألمه. أن نسمح له بأن يكون غير كامل، غير قوي، وغير قادر — دون أن يُقصى أو يُدان.
الوقاية فعل ثقافي طويل النفس، يبدأ حين يصبح السؤال عن الحال فعل محبة، لا مجاملة عابرة.
مسؤولية أخلاقية مشتركة
لا أخلاقيًا، ولا إنسانيًا، يمكن تحميل الفرد وحده عبء النجاة.
حين تفشل المنظومة الاجتماعية في توفير الأمان النفسي، يصبح الانتحار اتهامًا صامتًا لقيمٍ لم تعد تحمي الحياة.
الاستثمار في الصحة النفسية ليس سياسة عامة فحسب، بل موقف أخلاقي من الإنسان: إما أن نراه كقيمة، أو كرقم قابل للفقد.
خاتمة: دفاعًا عن الحياة الممكنة
الانتحار ليس اختيارًا حرًا، بل نتيجة عالمٍ لم يكن كفاية.
وكل شاب نفقده يترك خلفه سؤالًا لا يهدأ:
هل كنا أكثر إنصاتًا؟
أكثر رحمة؟
أكثر استعدادًا لأن نكون بشرًا لبعضنا؟
الدفاع عن الحياة لا يكون بالشعارات، بل ببناء عالمٍ أبطأ، أصدق، وأقل قسوة.
عالمٍ لا يترك أبناءه وحيدين في العتمة، ثم يكتفي بالحزن بعد فوات الأوان
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .