
حين تتحوّل الحقيقة إلى عبءٍ ثقيل ، بقلم : محمد علوش
الأسهل دائماً عند البعض، وربما الأكثر شيوعاً، هو التنصّل من المسؤولية والهروب إلى الأمام، بدل التوقّف الجاد أمام الحقيقة ومواجهتها بشجاعة، فمواجهة الحقيقة ليست فعلاً بسيطاً أو عابراً، بل خيارٌ مكلف، يتطلّب قدراً عالياً من النزاهة الأخلاقية، وجرأة سياسية، واستعداداً صادقاً لدفع ثمن الاعتراف بالخطأ وتحمل تبعاته، وفي المقابل، يوفّر الهروب مخرجاً سريعاً، وإن كان زائفاً، من المحاسبة والاستحقاقات، ويمنح أصحابه شعوراً مؤقتاً بالأمان، سرعان ما يتبدد عند أول اختبار حقيقي.
المؤلم أن هذا السلوك لم يعد استثناءً عابراً في الساحة الفلسطينية، بل بات ظاهرة متكررة تتجلّى بوضوح في الخطاب والممارسة معاً، فبدلاً من إجراء مراجعات جدّية وشاملة، يجري الالتفاف على الوقائع، وبدلاً من تسمية الأخطاء بأسمائها، يعاد تدويرها بلغة تبريرية فضفاضة، وكأن الزمن وحده كفيل بمحو الفشل، أو كأن تراكم السنوات قادر على تبرئة من تسببوا به، وهكذا تتحوّل السياسة، من أداة لتصويب المسار وبناء الخيارات، إلى وسيلة للهروب من استحقاقات الواقع، وإدارة الأزمات بدل حلّها.
إن الهروب إلى الأمام لا يحمي المشروع الوطني، بل يراكم أزماته، ويعمّق اختلالاته، ويوسّع الفجوة بين القيادة والناس، ويضعف الثقة العامة التي تعدّ الركيزة الأساسية لأي صمود حقيقي أو نهوض مستدام، فالشعوب لا تهزم حين تعترف بأخطائها، بل تهزم حين تمنع من قول الحقيقة، أو حين يطلب منها التعايش مع الوهم باعتباره قدراً لا فكاك منه،
والمراجعة الصادقة ليست جلداً للذات، بل شرط للنهوض، والمساءلة ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة وطنية لا غنى عنها.
ما نحتاجه اليوم هو ثقافة سياسية جديدة، تقدّم الصدق على المجاملة، والمصلحة العامة على الحسابات الضيقة، وتعيد الاعتبار لقيمة الحقيقة بوصفها أساس الإصلاح لا تهديداً له، ثقافة تؤمن بأن الاعتراف بالخلل هو الخطوة الأولى على طريق التصحيح، لا علامة ضعف أو هزيمة، فالهروب قد يؤجّل لحظة الانكشاف، لكنه لا يلغي الحقيقة، والحقيقة، مهما جرى تجاهلها أو القفز عنها، ستفرض نفسها في النهاية، ولكن بثمن أكبر، وأكثر قسوة، وإيلاماً.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .