12:49 مساءً / 23 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

غزة .. الفجر المذبوح وحُرّاس الجمر الأخير ، بقلم : الصحفي سامح الجدي

غزة .. الفجر المذبوح وحُرّاس الجمر الأخير ، بقلم : الصحفي سامح الجدي


إن أدبر ليل غزة، فليس لأنَّ النور على الأبواب. هنا، لا يصطف الفجر كما اعتدنا في المدن الهادئة؛ بل يُذبح أولًا، ويُختطف بياضه على يد سيوف تعرف تمامًا موضع الوتين. إنّ وميض الضوء في سماء غزة يشبه طفلًا يُنتزع من حضن أمّه قبل أن يتذوّق الحليب. وما بين انطفاء الليل وتلعثم النور، تتردّد وصيّة القائد القديم:


«يا سارية الجبل، الجبل .. ومن استرعى الذئب الغنم فقد ظلم.»
في هذه الوصيّة تختبئ حكمة السياسة الفلسطينية اليوم: خدائع الداخل أشد فتكًا من سيوف الخارج، ومن وضع مصير الغنم عند الذئب لا يحق له البكاء حين تنهش الرقاب.
غزة ليست مجرد مساحة جغرافية. إنّها عنقاء هذا الشرق، تهوى اختبار اللهب وتعود من الرماد كأنّ الموت تمرينٌ عضلي.
هي حارسة أحلام الأجيال، وحافظة ذاكرة الشهداء الراحلين منهم والمنتظرين دورهم. تمرّ السنوات وهم لم يبدّلوا عهدهم، ولم يغادروا الميثاق، ولم ينحنوا أمام جور الأقربين وظلم الحاكمين على الأبواب.
في أحلك ساعات الخراب، يظهر علينا دعاة الوحدة بخريطة مخيالية تُعرض فوق الجثث. يتحدّثون عن دويلة تُبنى من ركام، ومن دمٍ لم يجف بعد، ومن أطفالٍ ما زالوا يتعلّمون كيف يُكتب اسم الميت على قبرٍ صغير.
لا جديد في السمسرة السياسية؛ فهي مهنة عابرة للأزمنة. الجديد – الموجع – هو صمت الذين رأوا الدم وظنّوه ماءً، وشاهدوا المذبحة وظنّوها نشرة أحوال جوية.
عقدان من الانتظار، وعامان من الذبح، وما زال البعض يتعامل مع غزة كأنها اختبار علاقات عامة، لا قضية بقاء وامتحان هوية.
نحن لسنا تجار جغرافيا، ولا عشائريين في الوطنية، ولا نصنع بطولات من خلاف لفظي مع مناضل.
لكنّنا نرفض أن تتحول غزة إلى فريسة سهلة للجاهلين:
للدهماء الذين لا يعرفون وزن الدم،
لأصحاب الأجندات الذين يخفون مخالبهم تحت أقنعة الهوية،
ولأولئك الذين يهاجمون غزة وأهلها لأنهم لم يعيشوا يومًا في خيامٍ تقتلعها الرياح.
الوطنية لا تُباع ولا تُشترى،
وفتحاويتنا لا تُختزل في مزاد.
هي يقينٌ تشكّل من تعب الأمهات وحجارة الفتية وشرعية منظمةٍ ظلّت السدّ الأخير أمام انهيارات المنطقة.
خلال عشرين عامًا تقريبًا، عاشت غزة محرقة صراع المشاريع الإقليميّة.
فوقها تصادمت مصالح الدول،
واختبر اللاعبون الدوليون حدود نفوذهم، وبينهما تساقطت حسابات الأشخاص كأنّ الدم لا يعنيهم.
وصلت غزة إلى مقتلة كبرى تعيد تعريف النكبة بمعناها المادي والأخلاقي.
صار البيت قبرًا، والقبر عنوانًا جديدًا للهوية، وصار الخوف عادة متوارثة.
والآن، يدرك الجميع أن ما قبل المذبحة لن يكون مثل ما بعدها.
لم يعد ممكنا إدارة السياسة بالخطاب القديم، ولا تأجيل الأسئلة بحجة المرحلة. لذلك، على قيادة فتح، بعناصرها السياسية والتنظيمية، أن تواجه الحقيقة دون مرايا تجميل:
تصويب المسار لم يعد خيارًا… بل ضرورة وجودية.
الأداء القديم لن يصلح سفينة تحطمت أشرعتها.
والفكر الجامد لن يعيد مشروع التحرّر إلى طريقه.
البداية من غزة: من إنقاذها من الذين يفترسون لحمها، من ضباع تقسيم الوطن، من أصحاب خرائط الدم الذين يجهزون لمجموعة «دول» بلا شعب وبلا مستقبل.
وعروض خالد مشعل ليست نكتة سياسية عابرة؛ إنها دليل على أنّ الخديعة تتجدّد وأنّ الذاكرة قد تُسرق إن غفل أصحابها.
أما المتنفذون من أبناء غزة أنفسهم،
أولئك الذين حوّلوا المأساة إلى رصيدٍ شخصي، ومشوا في شوارع الدمار يبحثون عن مكاسب صغيرة، فليتذكّروا أن لعنة غزة أكثر صلابة من المصلحة الفردية.
التاريخ لا يغفر للأصوات التي سكتت،
ولا للأعين التي نظرت إلى المعاناة فبرّرت، ولا للضمائر التي وضعت مستقبل وطنٍ مقابل مقعد وظيفي أو صورة إعلامية.
سيأتي وقتٌ يحاسب فيه الجيل الجديد كلَّ من خذل. سيقرأ الأطفال تاريخ هذه اللحظة، ويفهمون أنّ الصمت أخطر من الرصاص.
دعوتنا اليوم ليست غضبًا سياسيًا؛
إنها مقاومة سردية ضد مشروع التدمير الممنهج. إنها محاولة لحماية قلب الوطن من عملية اغتيال بطيئة.
غزة خزان الوطنية الأخير، والضفة تتجه نحو اختبار أشدّ قسوة، يصفّق له «الجغرافيون البلهاء» وتجري خلفه أذيال الطاعة والانتهازية.
لا مكان للردح في لحظة الدم. الشتم لا يبني بيتًا، والتشهير لا يحرس وطنًا، والمناضلون – حتى حين نختلف معهم – يحمون آخر ما تبقى من العقل الجمعي.
غزة المدمرة خط أحمر، لأنها الوتر الأخير في قيثارة فلسطين، والنَفَس الأخير في معركة الوجود.
والآن، يا قادة هذه اللحظة: الفجر لا يحرس نفسه. وإذا تركتموه أمام الذئاب .. فلا تلوموا النور حين يتوقف عن العودة.

شاهد أيضاً

الكنيست يمدد قانون تقييد القنوات الأجنبية حتى 2027

شفا – صادقت الهيئة العامة للكنيست، الليلة الماضية، بالقراءتين الثانية والثالثة، على تمديد قانون يتيح …